إن العقبات التي تعتري المسلم في طريق مسيره نحو ربه أو حتى في حياته الدنيوية متنوعة، والتعامل معها مختلف بين صبر وجزع، وتحمُّل واستسلام، ومواجهة ومداراة، وتجاوز وحسم، وكل هذا حسب العقبة والزمن والشخص والمكان، أمر ابتُلي به الإنسان، وأخبره به ربه ضعفاً وامتحاناً، ومر به نبيه صلى الله عليه وسلم قدوة في أعلى درجات التعامل.
وحديثي في هذا المقال عن هوامك -أقصد عقبتك- التي تخرجك عن سيطرة الجسد وهدوء النفس، واستقرار حياتك، هذه العقبة الكؤود التي تخرجك دائماً من مرونة التعامل إلى جمود التوجه، ومن سمائية الارتقاء إلى أرضية البقاء، ومن جميل الإبداع إلى قبح الروتين وسماجة العادة، ومن تنوع الأداء إلى أحادية الطرح وجسدية الحركة.
لكل واحد منا هوامه التي تؤرقه وتغيظه وتجعله يعيش أيام الشرود والحزن، تزاحمها بقلة لحظات التركيز والفرح، قد تكون الهوام ذنباً عشش معك واستفرخ في خلوتك، وقد تكون وسوسة قهرية سيطرت فلا تتركك، وقد تكون شبهة فكرية أو معتقدية تتماشى معك وتجالسك، قد تكون عادة سيئة وفعلاً قبيحاً أدمنت عليه، وقد تكون غير ذلك، هي في نهاية الأمر هوام كهوام كعب بن عجرة الذي نقل إلينا صورة حية لهوامه، وماذا صنع بها!
وكعب بن عجرة رضي الله عنه صحابي أنصاري جليل ممن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض مشاهده، ومنها «يوم الحديبية»، فعند البخاري ومسلم عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، وفي رواية: وَكَانَتْ لِي وَفْرَةٌ، فَجَعَلَتِ الْهَوَامُّ تَسَّاقَطُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: «أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» -وفي رواية: فَقَالَ: «مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى»- قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوْ انْسُكْ نَسِيكَةً» قَالَ أَيُّوبُ: فَلَا أَدْرِي بِأَيِّ ذَلِكَ بَدَأَ.
هذه الهوام التي ملأت رأس كعب فأخرجته عن سلمه النفسي، وآذته في مسيره وقعوده؛ فلم يهنأ بطاعة، ولم يستسغ وضعاً محموداً، هي نفس الهوام التي تقعدك وتفسد عليك جميل حياتك، وتعكر صفو رقيك إلى ربك، ولنبدأ بالتحليل النصي لهوام كعب وكيفية المعالجة، وتأمل معي:
– رؤية الهوام على أنها شيء عظيم قد يؤدي إلى الاستسلام لها، فقد تناثر القمل والهوام حتى كما جاء عنه قائلاً: «قَمِلْتُ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ كُلَّ شَعْرَةٍ مِنْ رَأْسِي فِيهَا الْقَمْلُ مِنْ أَصْلِهَا إِلَى فَرْعِهَا»، وهذا من كثرتها، وهكذا هوام المرء من مؤرقاته الحياتية قد يستسلم لها لكثرتها، أو لطول بقائه، أو لقوة وقعها، أو لظنه من ضعفه أن لا حل لها، أو يقرأ الأمر خطأ، وكل هذا مما يعظمه الشيطان وأعوانه من الجن والإنس حتى تظل بهوامك وتبقى باضطرابك.
وقد مر هذا بثابت بن قيس فأقعده في داره ونأى به عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند أحمد ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) (الحجرات: 2) إِلَى قَوْلِهِ: (وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)، وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ رَفِيعَ الصَّوْتِ، فَقَالَ: أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَبِطَ عَمَلِي، أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَجَلَسَ فِي أَهْلِهِ حَزِينًا، فَتَفَقَّدَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: تَفَقَّدَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَأَجْهَرُ بِالْقَوْلِ حَبِطَ عَمَلِي، وَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَوْا النَّبيَّ صلى اله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: «لَا، بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»، قَالَ أَنَسٌ: وَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
تأمل معي: فقراءة الأمر خطأً، ورؤيته عظيماً لا خروج منه، ووجود الجَلْد المستمر، والاتهام النفسي المبالغ فيه، واستبعاد العلاج، ويأس العودة إلى سابق العهد، أقعده في بيته والأمر بعيد عن كل هذا.
– انشغل بهوامك أنت بمشكلاتك التي تحتاج حلاً وتوجب تدخلاً، فكثير من الناس ينشغل بهوام غيره، ويوطن الأرض لاستقرار إخوانه، وينعش الأجواء لأصحابه، وهو مجدب في وعورة عقبته، ومكدر بتلوث مناخه، ولعل هذا ما كان يشغل الصحابة الذين توافدوا على النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه ما يصلح به حالهم ويقوي عودهم، فهذا وابصة بن معبد جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، وهذا حذيفة بن اليمان جاء يسأله صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يقع فيه، وهذا معاذ بن جبل جاء يسأل عَنْ كَلِمَةٍ قَدْ أَمْرَضَتْنِي وَأَسْقَمَتْنِي وَأَحْزَنَتْنِي، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «سَلْنِي عَمَّ شِئْتَ»، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، حَدِّثْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ لَا أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا.. (الحديث)، وغيرهم كل له ما يشغله وكل يحمل هوامه وما يؤرقه.
– اعرض نفسك دائماً على أصحاب الحل والعقد أهل الخبرة والتناصح، واعرض حالك وصورتك لهم، فقد يكون الحل عندهم، والعلاج بسيطاً، لكنك غافل عنه لم توفق إليه، وربما يظهر لك ألا مشكلة من الأساس كما مر مع ثابت بن قيس، أو يأتي العلاج بسهولة الحل والتنفيذ، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما عرض الحل وما أيسره في علاج هوام كعب، بل ما أيسر الدين إذ جاء بالتخفيف والرخصة! وكأن الشارع يأبى أن يكون أحد من أفراده وأتباعه في طريق عبوديتهم تحت الضغوطات النفسية أو القلق والاضطرابات الصدرية، الذي يضيع معها التلذذ بجمال العبادات وترسخ المشقات.
– سرِّ عن نفسك بمجاوزة غيرك نكبتك وتجاوزه عقبتك، نعم فقد حدثتنا السنن الإلهية والنبوية لأقوام مروا بما تمر به من هوام العمل وعقبات الطريق، بل ربما أكثر منك، قد جاوزوا محنهم، واستفاقوا لربهم، تذكر هناك من ارتكب الكبيرة وكررها، وأصر على الصغيرة وعددها، وتحمل الحمالة المثقلة وهو ليس من أهلها، وافترسته الوساوس وأعيته الأمراض النفسية، وغيرهم، حدثنا القرآن عنهم وحدثتنا السُّنة النبوية عن أخبارهم، قد صارعتهم الهوام فانتصروا عليها وختم لهم بخير.
أمثلة كثيرة: فهذا قاتل المائة، وهذا كاره الإسلام والحاقد عليه الذي أصبح ذاباً عنه وداعياً إليه، وهذا مرتكب الكبائر من شارب الخمر أو الزنى وغيرهما قد حسنت توبتهم ومروا من طريقك، وقتلوا هوامهم واستدركوا ما فاتهم، ولكن كن في هذا متمثلاً بكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ».
– احلق وابتر ما يؤرقك من العقبات، فهناك هوام لا يصلح معها التدرج ولا ينفع معها التسلسل بالتجربة الحياتية العملية، ما هي إلا نهاية محتمة من تضييع وقت وخور عزيمة، تحتاج منك قوة وتخلصاً كاملاً في لحظة تجمع فيها جميع الأسباب ومستعيناً فيها بالله تعالى، ومؤملاً من وراء خطوتك إلى الوصول إلى السلم النفسي والانتصار الداخلي.
وأخيراً؛ إن هوام رؤوسنا وقلوبنا في عصرنا أصعب بكثير من هوام كعب، فهي ليست هواماً تأكل الشعر وتفسد الرأس من الخارج، إنما هوام تأكل الفكر الصحيح والفهم السديد والقلب النقي والصفاء الداخلي، تحتاج كياً وتستوجب نزعاً لا يبقي مزاجاً صحيحاً معها ولا فهماً سديداً في وجودها ولا علاقة جميلة مع خالقنا ومجتمعنا، احلق كما حلق كعب، وأفدِ كما افتدى، واستعن بالله ولا تعجز.