يسود ثقافتنا العربية مفهوم مفاده أن التربية مهمة الأم بالأساس، وأن دور الأب الرئيس السعي لرزق الأسرة، غير أن هذا المفهوم يخالف ضرورات الواقع ومحددات الشرع، التي تجعل من دور الأب أحد العناصر الأساسية في العملية التربوية بالأسرة؛ إذ له أدوار في تنشئة وتربية وتعليم الأبناء، لا يمكن لغيره القيام بها، فيما اصطلح على تسميته في الدراسات التربوية بـ«الوعي الأخلاقي» لأفراد الأسرة.
والوعي الأخلاقي نعني به القدرة على التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والجميل والقبيح، وفقاً لمجموعة من المبادئ والقيم التي تحكم سلوك الإنسان في حياته، ويتطلب أن يكون صاحبه على دراية بالآثار المترتبة على تصرفاته على نفسه وعلى الآخرين، وأن يتشكل لديه حس المسؤولية عن خياراته وقراراته، كما يتطلب منه أن يستخدم عقله وضميره في تحديد ما يجب فعله أو تجنبه في كل موقف.
فدور الأب يمثل المسؤولية والحكمة والتفاني والحزم، وهي ظلال من عملية التربية الأساسية، خاصة في ظل التحديات والتغيرات التي تواجه الأسرة في عصرنا.
ولذا، تشير دراسات التخصص التربوي إلى أن دور الأب في الأسرة يجب أن يشمل عدة جوانب، منها الجانب التربوي المتعلق بالتأثير على سلوك وشخصية وقيم الطفل، من خلال تقديم الإرشاد والتوجيه والتقويم له، وإنشاء قواعد وحدود وجزاءات في التعامل معه، على التوازي مع إظهار الحب والاحترام والثقة له.
وبحسب دراسة نشرها خبير التربية جون سنودن، عام 2018م، فإن دور الأب يجب أن يشمل الجانب التعليمي للأسرة أيضاً، لما له من تأثير بالغ على مستوى وقدرات وإمكانات الأبناء، من خلال تشجيعهم على التعلم والتحصيل الدراسي، وتزويدهم بالموارد والفرص التعليمية، وتقديم المساعدة والدعم لهم.
بل إن دور الأب يتعدى إلى الجانب الاجتماعي، بحسب الدراسة ذاتها، ويتعلق ذلك بالتأثير على علاقات واندماج وانتماء الأبناء، من خلال تشكيل رابطة قوية معهم، وتقديم نموذج إيجابي لهم، وتعليمهم كيف يتفاعلون مع الآخرين.
أدوار تربوية
ويصنف سنودن أدوار الأب التربوية إلى 3 أنواع: دور مؤثر، ودور مشارك، ودور مساند، مشيراً إلى أن المؤثر هو ذلك المتعلق بتقديم نموذج القدوة للأبناء وإرشادهم وتوجيههم، وتحديد الحدود لهم.
ويتضمن دور المشارك أنشطة ومهام الأبناء، عبر استماع الأب إلى آرائهم ومشاعرهم، والتعاون معهم في حل مشكلاتهم.
أما دور المساند، فيتضمن إظهار الأب للحب والاحترام والثقة لأبنائه، وتقدير جهودهم وإنجازاتهم، وتشجيعهم على الإبداع التطور.
فيما تصنف الخبيرة التربوية سارة باركر، دور الأب التربوي، في دراسة نشرتها عام 2019م، إلى 3 أنواع: دور محفز، ودور مزود، ودور مساعد.
وتوضح الدراسة أن دور المحفز يتضمن تشجيع الأبناء على التعلم والتحصيل الدراسي، وتزويدهم بالأهداف والخطط والإستراتيجيات التعليمية، فيما يتضمن دور المزود إمداد الأبناء بالموارد والفرص التعليمية، مثل الكتب والقصص والألعاب والبرامج التعليمية، وتشجيعهم على استخدامها بشكل مستقل أو بالتعاون مع الآخرين.
أما دور المساعد فيتضمن تقديم المساعدة والدعم للأبناء في تنفيذ مهامهم الدراسية، مثل الواجبات أو المراجعات أو الاختبارات.
وفي دراسة أخرى للخبير التربوي أحمد عبدالغفار، نشرها عام 2020م، يحلل دور الأب في التأثير على علاقات أبنائه، وفق 3 أدوار: الأول هو دور الرابط، والثاني دور القدوة، والثالث دور المرشد.
وتوضح الدراسة أن دور الرابط يتضمن تشكيل رابطة قوية مع الأبناء، تستند إلى المودة والرحمة والصحبة، وتساهم في تقوية شخصياتهم وثقتهم بأنفسهم.
ويتضمن دور القدوة تقديم نموذج إيجابي للأبناء، يستند إلى الأخلاق والقيم والسيرة، ويساهم في تكوين هويتهم وانتمائهم.
أما دور المرشد فيتضمن تعليم الأبناء كيف يتفاعل مع الآخرين بشكل صحي وسليم، والمساهمة في تنمية مهاراتهم التواصلية والاجتماعية.
توازن الأدوار
إن دور الأب في التربية لا يتعارض مع دوره في السعي للرزق، بل يتكاملان ويتوازنان، فالأب يسعى للرزق ليوفر لأسرته الحياة الكريمة والمستقرة، ويستثمر رزقه في تحسين جودة تربية أبنائه، كما يؤدي دوره في التربية ليزرع في أبنائه القيم والمبادئ والمسؤولية، ويعدهم للحياة والعمل والإنتاج.
ومن شأن عدم موازنة الأب بين دوره في التربية ودوره في السعي للرزق، أن يؤدي إلى غياب أو قصور دور يفضي إلى مشكلات نفسية وسلوكية وتعليمية واجتماعية لدى الأبناء، مثل الخوف والقلق والاكتئاب والانطواء والعدوانية والانحراف والتبعية، بحسب دراسة أجراها أستاذ التربية بجامعة حلوان المصرية محمود عبدالمجيد حسان، نشرها عام 2018م.
وخلصت الدراسة إلى أن دور الأب في تشكيل شخصية أبنائه حاسم وفعَّال، ويؤثر على كافة جوانب نموِّهم الجسدي والذهني والانفعالي والاجتماعي.
وأوصت الدراسة بتفعيل دور الأب في تربية أبنائه، وتقديم النموذج الإيجابي لهم، وتحقيق التواصل الفعال معهم، وتقديم الحب والحنان والثناء والتشجيع لهم، وتطبيق الحدود والقواعد بحكمة وعدل.
وفي الإطار ذاته، تظهر دراسة أجراها أستاذ التربية بجامعة أم القرى عبدالله بن محمد الغامدي، عام 2016م، وجود ارتباط إحصائي ذي دلالة بين التوازن بين دور الأب في التربية ودوره في السعي للرزق، وسعادة الأسرة.
ولذا، توصي الدراسة بضرورة تحقيق التوازن بين دور الأب في التربية ودوره في السعي للرزق، باعتباره عاملاً مؤثراً في سعادة الأسرة، وذلك من خلال تخصيص جزء من الوقت للاهتمام بشؤون الأسرة، وإشراك أفرادها في صنع القرارات المهمة، وإظهار الأب للمحبة لهم، وإقامة نشاطات ترويحية مشتركة معهم.
فيما توصي دراسة أخرى، أجراها الخبير التربوي عبدالعزيز بن محمد الغفيلي، ونشرها عام 2019م، باستغلال الآباء للفرص التي توفرها التكنولوجيا لتحسين التعليم، وذلك من خلال متابعة أداء أبنائهم على المنصات التعليمية الإلكترونية، وتزويدهم بالأدوات والبرامج التي تساعدهم على التعلُّم، ومراقبة نوعية المحتوى الذي يتصفحونه.
وتشير الدراسة إلى أن الاكتساب لما يمكن تسميه بالأخلاق الإلكترونية، المتعلقة بآداب وأسلوب التعامل مع الإنترنت، تعود بالأساس إلى دور الأب الفاعل في عملية التربية.