بعيدًا عن النُّبوءات المتعدِّدة بزوال «إسرائيل»، التي من أهمها النبوءات من داخل المنظومة الثقافية والدينية اليهودية ذاتها، التي أعلنتها قياداتٌ سياسية «إسرائيلية»، ورموزٌ فكرية صهيونية، ورجالاتُ دينٍ يهودية، والمتمثلة في «لعنة العقد الثامن»، إذ يؤكدون أنه لم تعمِّر دولةٌ في التاريخ اليهودي أكثر من 80 سنة، فتعالت أصواتُهم صُراخًا وهم يقتربون من هذا العقد، فبعد قيام دولتهم الحديثة سنة 1948م، ها هي تقترب من هذه اللعنة المشؤومة -بزعمهم- في حدود سنة 2028م بالتقويم الميلادي.
لقد حقَّق العدو الصُّهيوني أهدافًا كبيرةً، وفق الصياغة الأولى لإستراتيجية الأمن القومي «الإسرائيلي»، في بيئةٍ جيواستراتيجيةٍ مساعدةٍ له في الـ40 سنة الأولى، إلى غاية اندلاع الانتفاضة الأولى في حدود سنة 1987م، وهي التحوُّلات الكبيرة في بيئة هذا الكيان الداخلية والخارجية التي مكَّنته من فرض نفسه كأمرٍ واقع، حيث تمكَّن من تحييد الجيوش العربية التقليدية عن الصِّراع، وكان العنوان الأبرز للخيانة العربية للقضية الفلسطينية: وَهْم السَّلام، ابتداءً من اتفاقية «كامب ديفيد» مع مصر سنة 1978م، واتفاقيات التطبيع، ومكاتب الاتصال، والعلاقات التجارية والاقتصادية العلنية والسرِّية مع دولٍ عربيةٍ أخرى، مما تسبَّب في تراجع مستوى العداء تجاهه، والأمان من الشعور بالخطر منه، وتهديده للأمن القومي العربي.
إلا أن الـ 40 سنة الثانية شهدت انطلاق الانتفاضة المباركة، والتطور النوعي للمقاومة الباسلة، ففي مايو 2021م -مثلاً- بادرت «كتائب الشهيد عز الدين القسام» بمعركة «سيف القدس»، ردًّا على انتهاكات العدو الصُّهيوني للمسجد الأقصى المبارك، وهمجيته في التعامل مع المقدسيين لتهويد القدس الشَّريف، ومحاولاته لتغيير الوضع الديمغرافي والتاريخي والديني للمدينة المقدَّسة، وهو التحوُّل الإستراتيجي البارز بتوقيت المقاومة، وهو حالةٌ جهاديةٌ نادرةٌ، حيث انتقل قرار الحرب، والمبادرة بالفعل المقاوم إليه، ولم يعد مقتصرًا على ردود الفعل على ممارسات الكيان الصهيوني ضدَّ قطاع غزة فقط، فرسمت المقاومة بذلك صورةً جمالية لتوحُّد الشَّعب الفلسطيني (غزة والضِّفة والقدس وأرض 48) على مشروعٍ جهاديٍّ واحد، وهو تحوُّلٌ استثنائيٌّ في إستراتيجية المقاومة من أجل تحرير فلسطين، كلِّ فلسطين، من البحر إلى النهر، وهو ما فرض معادلةً جديدةً في الصِّراع، وهي: أنه لا يمكن للاحتلال الصُّهيوني الاستفراد بمَن يشاء من مكوِّنات الشَّعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، فتمَّ الرَّبط المصيري بين غزة والقدس، وهي القضية الجامعة والمستفزَّة لمشاعر كلِّ المسلمين في العالم.
ويعتبر هذا الإنجاز على الأرض بمثابة التطوُّر الطبيعي لفصائل المقاومة في الانتقال من الاعتبارات السياسية لمرحلة الاستضعاف إلى الالتزامات الوطنية والعقائدية لمشروع التحرير الكامل.
ومن التطوُّرات الخطيرة في البيئة الخارجية لإستراتيجية الأمن القومي الصُّهيوني، بما يلامس الخطر الوجودي لـ«إسرائيل» ويعجِّل بزوالها، وبالرغم من الصُّعود المتنامي للتيار الديني المتطرِّف، وتغلغله في المؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية له، فإن هناك تغييراتٌ جوهريةٌ متمثلةٌ في التطوُّر النوعي والمتصاعد لقوى المقاومة، وعلى عدة جبهات.
وجاءت معركة «طوفان الأقصى»، التي أشعلت شرارتها -كذلك- «كتائب الشَّهيد عز الدِّين القسَّام»، يوم السَّبت 7 أكتوبر 2023م، بمثابة الصَّدمة الكبرى، والحدث الإستراتيجي الأخطر في تاريخ هذا الكيان منذ تأسيسه، والذي أكَّد انهيار المنظومة الأمنية والعسكرية أمام الخطط الإبداعية والأداء البطولي المتميِّز للمقاومة، ولا يزال العالم في حالة الذُّهول والدَّهشة مما حدث لأكذوبة الجيش الذي لا يُقهر، وخرافة جهاز الاستخبارات الذي لا يُهزم، وَوَهم القوة الإقليمية التي لا تُضاهى.
ومن النتائج الإستراتيجية لهذه المعركة، ومن الدلالات العميقة لهذه المواجهة، وبالرغم من حجم كلفتها الإنسانية، فإنها أعادت القضية إلى بُعدها العقائدي، والارتماء بمشروع المقاومة إلى حُضنه الطبيعي العربي الإسلامي، وفرض عدالة القضية على جدول أعمال هذا العالم الصامت، واستغلال فرصة تصادم الإرادات بين القوى العظمى، في محاولاتٍ مستميتةٍ لإنهاء الهيمنة الغربية، والأحادية القطبية للزمن الأمريكي، لوقف حالة الانكسار الذي تعاني منه الأمة بسبب انشغال بلدانها بقضاياها الداخلية، وتعطيل المشروع السَّرطاني المشؤوم الذي يتمدَّد فيها، وهو التطبيع، والإجهاز النهائي على وَهْم التسوية واتفاقيات السَّلام وانسداد الأفق للحلِّ السِّياسي مع هذا الكيان، وفضح ممارساته أخلاقيًّا وقانونيًّا وإنسانيًّا أمام العالم، والإجهاز النهائي على أحلام أرباب تصفية القضية من كهنة معبد «صفقة القرن»، و«اتفاقيات أبراهام».
ومهما تكن من نتائج لهذه المعركة، فإنَّ فائض العزة والكرامة الذي أعلنته هذه العملية العسكرية الواسعة (البرِّية والجوية والبحرية)، تحت عنوان “طوفان الأقصى”، والتي استفتحت هذا الحدث التاريخي بما يعانق المعجزة، رغم الإمكانات الذاتية المتواضعة، إلا أنها دوَّت بها صرخةً مدوِّية بأنه لا يعلو صوتٌ فوق صوت المقاومة بهذه المعركة المتقنة والمنسَّقة والمتزامنة، ترسل من خلالها رسائل متعدِّدة الأبعاد للعالم بأسره، بأنَّ زمن الاستكبار الصُّهيوأمريكي قد ولَّى، وعلى الجميع أنْ يقف وقفة الإجلال والإكبار لها، وبأنه لا يمكن تجاوزها في أيِّ قرارٍ يخصُّ هذه المنطقة.
هذه المعركة عكست بصدقٍ -وبكلِّ وضوحٍ- قدرة المقاومة على الإرادة والإدارة والسيطرة والتحكُّم في الهندسة الإبداعية للصراع، وقد رسمت المشهد المستقبلي بما يقرِّب الصورة النَّاصعة للنَّصر الكبير والتحرير الشَّامل لفلسطين، وقد ظهر هذا الكيان وهو يتهاوى أمام العالم، وأنَّ صورته الكارتونية أوْهَن من بيت العنكبوت، وأنَّه لا يزال تحت الصَّدمة أمام حالة الذُّهول لسقوط المسلَّمات السَّابقة بالتفوُّق المطلق له، وقد اعترف بأنَّ ما يجري لا يشبه أيَّ شيءٍ عرفه في القتال من قبل.
وفي ترجمةٍ لعنصر المفاجأة وحالة الذُّهول والصَّدمة، وكأنه حُلْمٌ من صنع الخيال يتحقق، في مشاهد بطولية نادرة، قدَّمت المقاومة مشاهد خيالية تعاند الحقيقة، لا يصدقها المطبِّعون، ولا يؤمن بها مَن باع ضميره للشَّيطان الأكبر في هذا الزمان، إلا أنها نفحةٌ من قوله تعالى: (نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) (الصف: 13).
وهي جرعةٌ مكثَّفة من الأمل لهذه الأمة، في ظلِّ هذا الرُّعب والصَّدمة التي أُصيب بها هذا الكيان وداعموه، وأجمعت كلمةُ الخبراء والمحلِّلين على تصدُّع الأسطورة الصُّهيونية، وأنها قد انهارت بشكلٍ فظيع، وأنه يصعب ترميمها مهما كانت ردَّة فعلها، وأنَّ جميع حصونها قد انكسرت بما يمرِّغ كرامتها في التراب، ويهوي بكبريائها على الأرض، كما قال تعالى: (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) (الحشر: 2).
لقد كانت لهذه العملية العسكرية النَّوعية للمقاومة رسائل متعدِّدة، لا يجب التأخُّر في قراءة أبعادها، أو التقصير في رصد دلالاتها، فهي عمليةٌ عسكرية جريئةٌ وشاملة، تقرِّب عقارب ساعة المواجهة الفاصلة للتحرير الكامل لفلسطين، وأنَّ زمام المبادرة في ذلك قد أصبحت بيد المقاومة دون سواها، وقد تلقَّف الجميع الرسالة الواضحةً بأنَّ «مَن يريد السَّلام فعليه أن يستعدَّ للحرب»، وأنَّ للمقاومة اليد الطُّولَى على القوى الإقليمية والدولية الداعمة والمتواطئة مع هذا الكيان السَّرطاني، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذه المقاربات الشيطانية – ومنها تمدُّد موجة التطبيع، التي حاولت الوصول إلى ابتلاع دولٍ عربيةٍ وازنةٍ تاريخيًّا، مثل: السُّعودية والضَّغوط المستمرة على غيرها، ما يجعل توقيت “طوفان الأقصى” توقيتًا دقيقًا واستباقيًّا لإبطال هذا السِّحر من فائض الخيانة والتطبيع من بعض أركان النظام العربي.
نحن الآن أمام واقعٍ جديد، وهو الحسم في الخيار الحتمي للمقاومة، وتعميمه على كافة السَّاحات، وقد وصلت إليه كلُّ الجبهات بعد استنفاذ كافة الخيارات، وهو يومٌ تاريخيٌّ، سيشكِّل حتمًا مرحلةً جديدةً، أيًّا كانت التطورات والانزلاقات في هذه المعركة، وسيجعل «طوفانُ الأقصى» أعداء فلسطين من المُغْرَقِين، وأن ساعة حتمية «زوال إسرائيل» قد اقتربت فعلاً، والتي لم تعُد مجرد أحلامٍ رغائبيةٍ، بل أصبحت يقينًا تتجلَّى آياتُها في الخيال الذي تجسَّد في الواقع.
وأنَّ تفوُّقًا في الذَّات المقاومة، وأنَّ وعيًّا بالذَّات التاريخية لها، وأنَّ إحساسًا باللحظة الفاصلة تجعلنا أمام سانحةٍ ذهبيةٍ للتقدُّم نحو الأمام، وأنَّها فرصةٌ استراتيجيةٌ لاستيقاظ هذه الأمة، وعودتها كإحدى القوى الحيَّة في عالمٍ متعدِّد الأقطاب، وأن الاستئناف الحضارية لها من جديد لن يتحقَّق إلا بعد زوال «إسرائيل»، (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) (الإسراء:51).
________________
برلماني جزائري سابق.
https://t.me/nasser280377