استغل المرجفون على الساحة العربية العلاقة بين حركة «حماس» وإيران، وأشاعوا أن «حماس» ما هي إلا خلية من خلايا النظام الإيراني، وأرادوا من خلال ذلك إنهاء التعاطف الشعبي مع حركة «حماس»؛ بحجة أنها حركة شيعية وليست سُنَّية!
وبما أن هذه الشبهة تنطلق من منطلق شرعي (سُنَّة وشيعة)، فينبغي أن نرد عليها من منطلق شرعي.
قبل الرد على هذه الشبهة، ينبغي أن نؤكد الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني؛ وهي أن النظام الإيراني له علاقات دبلوماسية مع معظم الدول العربية والإسلامية.
وعندما نقول علاقات دبلوماسية، فإن هذا يعني أن اتفاقاً تم بين النظام الإيراني وهذه الدول على درجة التمثيل الدبلوماسي الذي يهدف إلى حماية مصالح هذه الدول وضمان مصالح رعاياها، وإجراء المفاوضات التي تقتضيها الظروف وتوثيق العلاقات الدولية والاقتصادية والثقافية بين هذه الدول.
إيران لها علاقات دبلوماسية مع معظم الدول العربية والإسلامية
ومعلوم أن هذه البعثات تراقب تطور الأحداث في الدول المستقبلة وتقدّم تقارير دورية عنها، ويكون رئيس البعثة سفيراً أو وزيراً مفوضاً أو قائماً بالأعمال، ويعهد له التواصل مع دولة الاستقبال فيكون ممثلاً شخصياً لرئيس دولته، ولا يتمّ اعتماده إلّا بكتاب اعتماد يقدَّم إلى رئيس الدولة المستقبلة، وتحدد الدولة الموفدة عدد أعضاء البعثة في ضوء إمكانياتها، وعلى نحو يتناسب مع تقديرها لمدى أهمية علاقاتها مع الدولة المستقبلة.
كل هذا تم بين النظام الإيراني ومعظم دول العالم العربي والإسلامي، ثم يأتي بعد ذلك من يدَّعي أن حركة «حماس» خرقت العزلة المفروضة على إيران وأقامت علاقات معها!
لماذا ذهبت «حماس» إلى إيران؟
وللإجابة عن التساؤل، يجب أن نقرر أولاً أن علاقة حركة «حماس» بالنظام الإيراني علاقة سياسية وليست دينية أو مذهبية.
و«حماس» قبلت المساعدة من إيران لأنها متفقة معها في موقفها من الكيان الصهيوني، وهذه العلاقة لا يصح وصفها بأنها «ارتباط» بقدر ما هي تحالف سياسي، وقد لجأت «حماس» لهذا التحالف عندما بدأ الكثير من الأنظمة العربية التي كانت تقف مع الشعب الفلسطيني تطبع مع الاحتلال، والبعض من هذه الأنظمة صنَّف «حماس» على أنها منظمة «إرهابية»، فلم يعد أمام «حماس» إلا أن تتعاون وتتقبل العون من القوى التي تتفق مع منهجية مقاومة الاحتلال.
المقاومة الفلسطينية («حماس» أو غيرها) تتعامل وتتعاون مع نظام إيران على أساس توافق مواقفهم في موضوع «مقاومة الاحتلال»، وليس بين المقاومة ونظام إيران تحالف إستراتيجي، وإيران قبلت أن تقدم الدعم للمقاومة الفلسطينية دون أن تلتزم المقاومة بتقديم أي تنازلات.
علاقة «حماس» بإيران سياسية وليست دينية أو مذهبية
إن إثارة هذه الشبهة (علاقة «حماس» والمقاومة الفلسطينية بإيران) بشكل متكرر في الفترة الأخيرة، وخاصة بعد العملية البطولية للمقاومة «طوفان الأقصى»، الهدف من ورائه الطعن في المقاومة والتلميح والغمز بأن المقاومة الفلسطينية تتماهى مع المشاريع التوسعية لإيران في المنطقة.
هذه الأطراف المشككة استغلت التشوه في المفاهيم السياسية في مجتمعاتنا وبلادنا، فالكثيرون اعتادوا على أن تكون التفاهمات السياسية بين أي طرفين سياسيين هي علاقات ارتباط وتبعية، والحقيقة أن هذا صحيح في معظم نماذج التحالفات السياسية في بلادنا العربية.
لكن المقاومة الفلسطينية لديها تجارب طويلة ومريرة مع التحالفات السياسية في بلادنا، وهذا جعلها تتعلم من تجاربها وتطور تجربتها السياسية؛ لذلك أصبحت تبني تحالفاتها على أساس الموقف وليس من خلال التوافق الكامل أو الارتباط أو التبعية؛ بمبدأ «نتعاون فيما اتفقنا فيه، ولكل منا وجهته ورأيه عندما نختلف»، والحقيقة أن هذا هو الأسلوب الناجح في العلاقات السياسية.
لذلك، رغم أن «حماس» والمقاومة الفلسطينية علاقتهم جيدة مع إيران، وهناك تعاون كبير بينهم، فإن هذه العلاقة محصورة فيما هو متفق عليه؛ وهو مقاومة الاحتلال، ولا علاقة للمقاومة بأي نشاط آخر لإيران.
المقاومة الفلسطينية تتوافق مع إيران في «مقاومة» الاحتلال
الإسلام يبيح للمضطر
أما من الناحية الشرعية، فلقد أباح الإسلام للمضطر أن يأكل الميتة، قال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة: 173)، وقد قال السعدي في تفسير هذه الآية: فمن اضطر؛ أي: ألجئ إلى المحرم بجوع أو إكراه، غير باغ؛ أي: غير طالب للمحرم، مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، ولا عاد؛ أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها، فلا إثم؛ أي: لا جناح عليه، وإذا ارتفع الجناح، رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة مأمور بالأكل، بل منهيّ أن يُلقي بيده إلى التهلكة وأن يقتل نفسه، فيجب عليه الأكل، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات، فيكون قاتلاً لنفسه، وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وقال ابن كثير في تفسيره: قال مجاهد: فمن اضطر غير باغ ولا عاد قاطعاً للسبيل، أو مفارقاً للأئمة، أو خارجاً في معصية الله، فله الرخصة، ومن خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله فلا رخصة له، وإن اضطر إليه، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقد أثبتت كتب السيرة قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه مع المشركين، وذلك عندما سلط عليه المشركون أشد أنواع التعذيب في مكة، ولم يكن ذلك العذاب له وحده، بل لكل العائلة؛ لأبيه ولأمه، فقد وضعوا الصخر الملتهب على صدره، وضربوه ضرباً شديداً، وقاموا بقتل والديه أمامه، ياسر وزوجته سمية رضي الله عنهما، وطلبوا منه أن يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمام هذا القهر والتعذيب والإكراه الحقيقي، والقتل الفعلي الذي حدث لأعز الناس لديه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأمام الألم الرهيب الذي كان يحس به في كل ذرة من جسده، قال ما أراده الكفار منه، وسبَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، سبَّه بلسانه مع أن قلبه لا يُقدِّم عليه أحداً من خلق الله ولا حتى نفسه التي بين جنبيه.
«حماس» اضطرت للتعامل مع إيران حيث تُركت تواجه الإجرام الصهيوني وحدها
ومع أن الموقف سليم شرعاً، لكنه جاء مسرعاً باكياً معتذراً تائباً بمجرد أن تركه الكفار، فشكى حاله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ويعتذر إليه مما فعل، وقال له: قد قلت فيك كذا وكذا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كيف تجد قلبك؟»، قال عمار: أجده مطمئناً بالإيمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عادوا فعد»؛ فأنزل الله عز وجل قوله: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 106)(1).
وقصة نعيم بن مسعود رضي الله عنه في غزوة «الخندق» معروفة للجميع، حيث أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخذّل عن المسلمين بالإيقاع بين المشركين ويهود بني قريظة.
فإذا كانت حركة «حماس» اضطرت اضطراراً للتعامل مع إيران فلها العذر؛ وذلك لأنها تتعامل مع عدو لا يرقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة، وقد تخلى عنها من حولها وتركها تواجه هذا الإجرام الصهيوني.
_____________________________
(1) كتاب «كن صحابياً»، د. راغب السرجاني (1/ 6).