الإنسان كتلة من المشاعر التي تتقلب بين الحزن والفرح، والخوف والرجاء، والشجاعة والجبن، والأمل واليأس، وغيرها من المشاعر التي يطغى بعضها على الآخر بحسب الظروف التي يمر بها الإنسان؛ فتُشكل شخصيته، وتصوغ أفكاره، وتساهم في تكوين اتجاهاته وآرائه.
وقد استوقفني قبل أيام لقاء أُجري مع المفكر القطري د. نايف بن نهار وهو يتحدث عن الدروس المستفادة من الحرب الإجرامية التي يشنها اليهود ضد أهل غزة عندما وصف الحالة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وأطلق عليها مصطلح «حرية المشاعر»، حيث أثبتت الحرب أن أهل غزة قد تحرروا من مشاعر الخوف والقلق والجزع واليأس والحزن والندم، وواجهوا إجرام اليهود بنفوس تمتلئ إيماناً وثباتاً ويقيناً بنصر الله تبارك وتعالى لهم.
كنا نقرأ في سير الصحابة والصالحين عن تلك الفئة المؤمنة التي صَغُرت الدنيا في أعينهم، فبذلوا الغالي والنفيس من أجل حياة أخرى سرمدية لا شقاء فيها ولا انتهاء لها، وبلغ بهم حب الآخرة درجة عدم المبالاة بما يعده لهم أعداؤهم من عدة وعتاد، فجاء قول الله فيهم: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران: 173).
ثم نتساءل بيننا وبين أنفسنا: أين نحن من هؤلاء؟ وهل هيأنا أنفسنا للدار الآخرة كما فعلوا؟ أم أن المشاعر الأرضية قد كبّلتنا؟ وجعلتنا أسرى لا نستطيع الانعتاق من قيودها، ولا التحرر من سلطانها! وأصبحت تتحكم في حياتنا، وتحدد سلوكنا، وتشكل علاقاتنا مع من حولنا! حتى وجدنا أنفسنا أبعد ما نكون عن طلّاب الآخرة من سلفنا الصالح.
مشهد غزة أعاد إلى الأذهان الصورة المثالية التي قرأناها عن سلفنا الصالح، وربط الوجدان بما استقر فيه من آيات الذّكر الحكيم التي تحث على العبادات القلبية، مثل: التوكل على الله، والخوف منه، ورجاء رحمته، وتفويض الأمر إليه، فشاهدنا أطفالاً يسابقون الكبار في الثبات وصدق اليقين، وأبهر العالم ذلك الرجل الذي فقد ابنه وخرج على وسائل الإعلام يصبّر أهالي الشهداء ويدعوهم إلى التحلي بالإيمان والصبر؛ لأنهم قد باعوا أنفسهم لله رب العالمين ابتغاء رضوانه والفوز بجنانه! وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع الطفلة التي تدعو أخاها إلى عدم البكاء على أخيه لأنه شهيد لحق بأبيهم إلى الجنة!
ما الذي غُرس في هؤلاء الرجال والنساء والأطفال حتى تحرروا من مشاعر الخوف والجزع، وتساموا على آلام الفقد والحزن، وتجاوزوا مرارة التهجير والتعذيب؟! إنها عقيدة التوحيد الخالصة التي استقرت في القلوب، والتربية الإيمانية الراسخة التي تجذرت في النفوس، والثمار اليانعة لحلقات تحفيظ القرآن الكريم، والمعتكفات القرآنية التي تُخرّج مئات الحفّاظ سنوياً، والمساجد التي يعمرها بالذكر والطاعة وطلب العلم وحفظ القرآن شباب في مقتبل العمر.
إنها الثقافة الإيمانية التي أجبرت رئيس وزراء الكيان اليهودي «النتن ياهو» ليجعلها في مقدمة أهداف حربه على مسلمي غزة عندما قال: سندخل غزة لكي نغيّر الثقافة السائدة بين أبناء القطاع! يقصد الثقافة الإيمانية القرآنية التي حررت أهل غزة من عبودية المشاعر، وأخذت بأيديهم إلى ما يريده هذا الدين العظيم من بناء إنسان متحرر من هيمنة المشاعر الأرضية وسيطرتها عليه.