لا يخفى بأنَّ الحصار الاقتصادي إحدى الأدوات غير الإنسانية في الصراع، ولا تخلو جولة من جولات التدافع في التاريخ من استخدامه بكل قسوة، فقد استعمله المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم منذ بدايات الدعوة في العهد المكي، بكل تلك الوحشية والإجرام، دون مراعاة حرمة الدم والجوار والقربى، فقد كان ذلك الحصار في شِعاب مكة مؤلماً ولمدة 3 سنوات كاملة.
فقد جاء في «زاد المعاد» لابن القيم الجوزية، قال: لما رأت قريش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو ويتزايد، أجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب: أن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يُكلِّموهم، ولا يجالسوهم حتى يُسلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلَّقوها في الكعبة، وحُبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه في شِعبِ أبي طالب سنةَ سبعٍ من البعثة، وبقوا محبوسين محصورين مُضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم المِيرة والمادة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجَهدُ، وسُمِعت أصواتُ صبيانهم بالبكاء من وراء الشِّعب..».
حصار غزة
أثارت تصريحات ممثل الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية، في يناير الماضي، عن المسؤولية الجنائية عن هذا الحصار الظالم على قطاع غزة، هروباً من استحقاقات القانون الدولي، فقال عن مصر: «إنها مسؤولة عن منع دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة من الجانب المصري لمعبر رفح»، ولم يكن مضطراً لتوريط مصر في هذه الجريمة لولا الإحساس بالخطر الحقيقي عليها، وقد استطاعت دولة جنوب أفريقيا جرَّه لأول مرة في تاريخه لمثل هذه المحاكمة العالمية العلنية، بكل تلك الدقة الاحترافية والموضوعية المتقنة؛ وهو ما فضح هذا الكيان أمام الرأي العام العالمي.
حصار غزة جريمة مكتملة الأركان ومُدانٌ أخلاقياً وقانونياً ما يتطلب تحريك الأمة وتجنيدها لكسره
إذ لا تزال غزة، وفق القانون الدولي، تحت الاحتلال الصهيوني، بذلك الحصار البري والجوي والبحري، وفرض الرقابة القاسية على دخول المساعدات الإنسانية عبر معابره الستة مع قطاع غزة، التي كانت مفتوحة للتجارة، وقد بلغت مع قطاع غزة عام 2022م أكثر من 4.7 مليارات دولار لصالح القطاع التجاري والصناعي «الإسرائيلي».
وكثيراً ما يعتقد العدو الصهيوني وحلفاؤه في الاستخدام الأرعن لسلاح الحصار بأن ذلك سيحقق أهدافه المزعومة، إلا أن النتيجة الطبيعية كانت وستبقى عكسية تماماً، بما يولِّده من غضب واحتقان ومقاومة، بما يؤجِّجه من مشاعر الانتقام وردود الفعل، فقد تمَّ الإمعان في هذا الحصار؛ براً وبحراً وجواً، منذ عام 2006م، تاريخ فوز «حماس» بالانتخابات وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وهو أحد الأسباب المباشرة لانفجار معركة «طوفان الأقصى»، في 7 أكتوبر 2023م، وما حملته من تداعيات إستراتيجية خطيرة على المنطقة، بما هدَّد، وجودياً، مستقبل «إسرائيل» والأنظمة الوظيفية المرتبطة بها عضوياً، وقد أثبتت الحقائق الواقعية أن هذا الحصار لم يزد المقاومة إلا تطوراً وتفوُّقاً وانتصاراً، ولم يزد الشعب الفلسطيني إلا صموداً وجَلَداً واحتضاناً للمقاومة.
إنَّ حصار غزة جريمة مكتملة الأركان، وهو مُدانٌ بكل المعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية والقانونية، وهو ما يتطلب تحريك الأمة وتجنيدها لكسره، مثل:
1- دور علماء الأمة في صناعة الوعي:
لا غرابة في حصار العدو الصهيوني لقطاع غزة، فهو في حرب دينية ومصيرية ووجودية، إنما الجريمة الكبرى أن يكون هذا الحصار من ذوي القربى؛ القومية والعربية والدينية، فهو موالاة خطيرة للعدو الصهيوني، ومشاركة حقيقية في هذه الجريمة، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة 51)؛ وهو ما يتطلَّب تعبئة علماء الأمة للرأي العام العربي والإسلامي والإنساني ضدَّ هذا الحصار، وذلك بوضعه في ميزان الحكم الشرعي، على اعتبار أن الدين مرجعية حاكمة ومؤثرة في تصور المسلمين وسلوكهم تجاه هذه القضية، إذْ لا يجوز للمسلم خيانة أخيه المسلم أو خذلانه أو تسليمه لعدوِّه.
2- دور القانونيين في تصنيف هذا الحصار ضمن جرائم الحرب والإبادة الجماعية:
أكدت الأمم المتحدة ومقرِّروها ومنظمات حقوقية وإنسانية عديدة وقوع قطاع غزة في حالة حصار، وأنه تحت سلطة احتلال، ومع أن قانون النزاعات المسلحة نظَّم حالة الاحتلال الحربي، فيما يسمى في الفقه «قانون الاحتلال الحربي»، بما يفرض على الدولة المحتلة التزامات، يُعَدُّ تجاوزها جريمة حرب، والتي تهدف إلى حماية السكان المدنيين والأعيان المدنية في الإقليم المحتل، إلا أنَّ هذا الحصار منذ عام 2006م قد تسبب في أسوأ كارثة إنسانية في العصر الحديث، فقد سجَّلت منظمة الصحة العالمية بين عامي 2008 و2021م -مثلاً- وفاة 839 فلسطينياً مُنِعوا من مغادرة غزة للعلاج، قيَّم خبراء أن عدد الوفيات من الأمراض والجوع بسبب الحصار قد يكون أضعاف الوفيات من القتال والضربات الجوية.
وقد أبرز مجموعة من الأطباء في «المجلة الطبية البريطانية» الأبعاد الصحية للعنف الناجم عن الحصار المستمر، محذرين من خطر جسيم للإبادة الجماعية للفلسطينيين.
على الحقوقيين والقانونيين الدفع من أجل محاكمة العدو الصهيوني بالمحاكم الدولية وإلزامه بذلك
وفوق ذلك، فقد تمَّ «رسمنة» الحصار الأكثر وحشية وإجرامية منذ 9 أكتوبر 2023م عندما صرَّح وزير الحرب الصهيوني «غالانت» أنّ «إسرائيل» تفرض حصاراً كاملاً على غزة؛ لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود، كل شيء مغلق، نحن نقاتل «وحوشاً بشرية»؛ وهو ما وضع 2.3 مليون نسمة، في بقعة جغرافية مساحتها 365 ألف كيلومتر مربع تحت رحمة آلاف القنابل والصواريخ، وهو انتهاك صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، فالحصار يُعدُّ شكلاً من أشكال العقاب الجماعي غير المشروع، الذي تجرمه اتفاقية جنيف للقانون الدولي في البروتوكول الثالث في المادة (87)، والبروتوكول الرابع في المادة (33)، وملحقها في المادة (50)، والقاعدة رقم (103) من القانون الدولي الإنساني العرفي.
إنَّ هذا التوصيف القانوني وتحديد المسؤولية الجنائية عن الحصار يضع واجب رفعه عن غزة على عاتق الحقوقيين والقانونيين في العالم بالدفع من أجل محاكمة العدو الصهيوني في المحاكم الدولية وإلزامه بذلك.
3- دور الرأي العام في الضغط على الحكام:
هناك عدة وسائل لدى الرأي العام في الضغط على الحكام من أجل الدفع إلى فك الحصار، ومن هذه الوسائل: قوة الأحزاب السياسية، وحيوية المجتمع المدني، وزخم المسيرات والمظاهرات الشعبية، وفاعلية حملات المقاطعة الاقتصادية، وصناعة الرأي العام عبر وسائل الإعلام، ومختلف الوسائط الاجتماعية، وهي كلها وسائل تأخذ حكم غاياتها مقاصدها، فنصرة المسلم ورفع الظلم عنه واجب شرعاً، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، قال تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الأنفال: 72).
إن الأمة بكل مكوناتها وعناصر القوة فيها مدعوة بصورة عاجلة إلى التحرك بكل فاعلية لفك هذا الحصار الإجرامي عن قطاع غزة، وإيقاف آلة الحرب التدميرية ضد الشعب الفلسطيني المستضعف، والله تعالى يقول: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء: 75).