كاتب المدونة: عبدالعزيز اليوسف
تمتاز الرّسالة المحمّديّة عن سائر الرّسالات السّماويّة بإمكانها الحضاريّ الشّامل، والحضارة منهجٌ فكريّ متشكّل في إنتاج ماديّ ومعنويّ، ولو تفحّصنا منتجات الحضارة الإسلاميّة، لوجدنا أن من أهمّها هو الأمّة العربيّة من خلال إنتاج عناصرها تكوينها، الوطن والشّعب واللّسان والعقيدة والرّسالة والدّولة، فالفتح الإسلاميّ حرّر المنطقة العربيّة من المحتلّين، الفارسيّ والروميّ، وأقام فيها الخلافات الإسلاميّة العربيّة المتتالية، وحثّ فيها على الدّيانة الإسلاميّة حتّى انتشرت كعقيدة ورسالة ولغة جامعة.
وبفعل عامل الزّمن حوّل الإسلام العروبة من عرقٍ إلى عمق ثقافيّ استيعابيّ تختلط فيه الأعراق المختلفة كالسّاميّة والأمازيغيّة، قائداً ومواكباً لمنحنى التّحضّر الإسلاميّ، يراكم المعارف، ويهندس التّطبيقات، ويفتح البلاد، وأعاد تشكيل أهل الأرض العربيّة من قبائل متفرّقة متناحرة متخلّفة مغمورة، إلى مجتمع مدنيّ متماسك يدير شؤونه بنفسه.
فالتّحضّر عمليّة تفكيك المركّب، لذلك كلّما تقدّمت ونمت، تمايزت أبعادها الحضاريّة وتعدّدت، وقد بدأت متّحدة في نبيّ البشريّة محمد ابن عبد اللّه، صلّى اللّه عليه وسلّم، وصحابته رضوان اللّه عليهم في دولة المدينة المنوّرة.
هذه هي الصّورة الإجماليّة بعيداً عن منحنى الانحدار المخزي.
وبعد مرور الزّمان وتقلّب الأحوال، دخلت الحضارة حالة السّكون تلتها حالة الانكماش، ثم على إثر حملة نابليون اكتشفت تخلّفها الشّديد في جميع أبعادها الحضاريّة، السّياسيّ والاقتصاديّ والأخلاقيّ والقيميّ والعلميّ والفلسفيّ والأدبيّ والفنيّ وغيرها، المتفاوت سواءً في التّنظير أو التّطبيق.
نحن أمّة تدور حول النّص، يبدأ الإنتاج الفكريّ في حضارتنا بإنتاج علومٍ شرعيّةٍ معاصرة، على قاعدة أنّ من كمال الخالق تكامل خلقه المتشابك فيما بينه لا التّضاد والعبث، ثم يُبنى عليها إنتاج تلك العناصر الحضاريّة. المنتج الأوّل، العلوم الشّرعيّة، اعتقاديّ، يُنافس المعتقدات الأخرى، ويُحاكَم بمعايير العقل والمعنى والفطرة عموماً. والمنتج النّهائيّ، الأبعاد الحضاريّة، فكرٌ وأخلاقٌ ونظمٌ إنسانيّة تخلو من الغيبيّات، وتنافس منتجات الحضارات الأخرى، إن غلَبَت في النّظريّة وعلى أرض الواقع، تسود كأفضل منهج للحياة، ومعيار المفاضلة هو مدى تحقيقها المصلحة البشريّة. خلوّها من الغيبيّات، لا يعني خلوّها من الإيمانيّات، وخلفيّتها الدّينيّة لا تعني الجور على حقوق معتنقي المعتقدات الأخرى، فهي لا تتقاطع في الجانب العقديّ وتشريعه مع الأديان الأخرى، بل هي في ازدهارها حقٌ لكل من له حقٌ في أرض الإسلام ومَفخرة، وتطبِّق الدّولة منها القدر الّذي يتحمّله النّاس ويرضي الأغلبيّة، فالمجتمع أفراد اجتمعوا على العيش المشترك -التّعايش- قبل العيش الأصلح.
ولا يوجد أي مبرّر إسلاميّ أو أخلاقيّ لأي شكل من أشكال الاضطهاد من قبل الأكثريّة تحت أيّ مسمّاً أصوليّ كتحقيق العدالة أو إقامة شرع اللّه.. إلخ، يصل حد التّطهير العرقيّ، ولا يجوز التّسامح فيه أو التجاوز عنه بتاتاً، وكذلك في الاضطّهاد المقابل وهو فرض إرادة أقليّة استغرابيّة أو أقواميّة على الأكثريّة من خلال أدوات الاستعمار والاستبداد والإباحيّة والتّلاعب بالتّاريخ وغيرها.
الإسلام الحضاريّ بقوّة جاذبيّته وأدبيّاته، يقصّر المسافات ويذيب التّناقضات ويعزّز اللُّحمة بين الأمم والثّقافات، بينما الإسلام المتقادم ضعيف، يُفتّق تلك الجماعات طائفيّاً في حالة تعدّد الأديان والمذاهب، أو تصارعاً على مكانة الدّين والمتديّنين في حالة تعدّد الإيديولوجيّات، وفي هذه الظّروف قد دأب الاستعمار وجَدَّ على محاربة مظاهر التّديّن وشيطنتها، وفي الوقت ذاته دعَمَ الأصوليّات، ولعب على وتر الأقليّات.
وفي ظلّ انكماش الحضارة الإسلاميّة وذبول روابطها وشدّة فساد الخلافة العثمانيّة، وتحت وطأة الاستعمار المتحكّم بالسّاسة والموطّد للتّخلّف والجارف للثّقافة والمنتهك للحرمات والسّارق للأرض والثّروات، تاه العرب في تعريف الذّات، أتجمعهم أخوّة العروبة أم أخوّة الإسلام؟ أم سارهم الارتواء من حضارة الغرب العدميّة، أم الاقتيات على بقايا حضارتهم المؤمنة؟
ظروفٌ أفضت إلى شعور عميق بعظمة ماضٍ مجيد يُجرح، وحاضر خانق، ومستقبل قلق معتم، فتولّدت عاطفة ضخمة عمياء، ربّما تفضي إلى طرح أسئلة النّهضة وربط عرى المجتمعات، أو إلى انقسامات عاموديّة -إسلاميّ وقوميّ- تهتك بالمكوّن الاجتماعيّ وتطمس العقول والقلوب. إمّا استئصال عناصر الانحدار أو البناء عليها، إمّا تشخيص المرض وعلاجه، أو انتخاب الجينوم المتكيّف معه، ذلك يعتمد على من سيتصدّر المشهد.
في القرن الماضي، شُقّت هويّتنا نصفين بسيف الاستعمار الخبيث، على شرف وجاه شعبويّات الغرائز والجهالات، وضاع النّاس بين نارين، وأُجهضت دعاوى النّهضة للكواكبيّ والأفغانيّ وغيرهم، وكل من حاول بعدهم كمالك ابن نبيّ والمسيري، وافتَرس المجتمعَ الضّعيف، العسكرُ المنظّم، وضُربت علينا الذِلّة والمسكنة. وبالقياس على مبدأ “الفرصة البديلة” في الاقتصاد، لقد فقدنا آلاف مؤلّفة من لبنات النّهضة.
عندما تعجز الشّريعة عن إنتاج حضارة، فهي بالضّرورة قد عجزت عن إنتاج منهجيّة تديّن سليمة، متفاعلة مع الفطرة، منبثقة عن تراكم المعرفة، تشتبك مع نمط الحياة المعاصر وتفرض نفسها عليه، بل تنتج تديّناً مفرغاً من العقلانية والمعاني القرآنيّة والتّزكية، تعويضيّ، تغلب عليه الشّكليّات، تختلط فيه القناعة المطلقة بصحّة الاعتقاد، مع قناعة مطلقة بقدسيّة التّراث، وقناعة مطلقة بسلامة التّديّن، وفقهٌ فاقدُ الإحساس برسالة الإسلام.
كل انحراف في نمط التّديّن، يؤدّي إلى انحراف في هرميّة المجتمع؛ نوعيّة نخبته الدّينيّة والأخلاقيّة ومقاليدها ونمط تصدّرها، وهذا الدّولاب يراكم باستمرار طبقات من المصالح الشّخصيّة فوق كتاب اللّه وسنّة رسوله وفطرة الإنسان، تُردي إلى الإلحاد بأسمائه جلّ جلاله.
هكذا أفضى تقادم الفكر الدّينيّ، وبريقُ سلطانه، إلى الصرامة التّلقائيّة مع المخالفين على قاعدة إمّا معي أو عليّ، فتبخّرت طاقات المسلمين ومقدّراتهم في مشاريع لم تغيّر شيئاً، بل كانت على حساب المبدعين والموهوبين والعباقرة والقادة والمنتجين، وأُخذ التّديّن تشريفاً على البشر قبل أن يؤخذ تكليفاً أمام اللّه، وتجوهرت الجهالات، وتفشّت الآفات، وتشعّبت الانقسامات. فالفرق كبير بين أن تكون جزءاً من النّاس، أو أن تفرض نفسك الوصيّ عليهم. والنّتيجة، تمزّق وحدة صفّ الأمّة، وانحسار الإسلام فيها كمّاً ونوعاً.
بينما الإسلام المنتصر المقدام، كان من أسباب اجتماع النّاس عليه منذ رسول اللّه مروراً بمرحلة الفتوحات وما بعدها، هو سعة استيعابه العنصر البشريّ، وكانت مسؤوليّة حملة الرّسالة، الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وكان موقف المسلم إزاء ضلال الآخرين، الإنابة إلى اللّه والاستغفار للنّفس واتّهامها بالتّقصير، وأنّ الرّسل تفاضلوا فيما بينهم بمقدار تصبّرهم على الدّعوة، ولم يختلط هدف وحدة أهل أرض الإسلام مع هدف تديّنهم، تحقيقاً للرّحمة والعدالة.
ورغم انحراف الحراك القوميّ وتكفيره أدبيّاً، استطاع التّغلغل في المجتمع ومراكز القوّة والوصول إلى سدّة الحكم وتغيير شكّل المنطقة، لأنّه في بدايته قَبِل النّاس كما هي دون اشتراطات، ولم يَخلط الأدلجة بالوحدة كأهداف، على غرار الدّخول في الإسلام.
بالطّبع نزاهة أهل اللّه، مركز ثقل أخلاقيّ كبير للمجتمع والأجيال، وصمّام أمان في هيكل الدّولة، كذلك أهميّة التّربيّة الإسلاميّة الصّافية والإعلام والتّعليم والدّعوة… الخ، لكن كلّ هذا يُبنى اجتماعيّاً على سنّة بشريّة فطر اللّهُ النّاس عليها، هي أنّ نسج وشائج أي زمرة بشريّة دون فرضٍ وشموليّة، يؤدّي بالضّرورة إلى نشر الأخلاق الجماعيّة -تأسيس العقد الاجتماعيّ- من باب مصلحة العيش المشترك، كالتّضامن القلبيّ، أو مؤاخاة المهاجرين والأنصار والفلسطينيّين، أو الدّيمقراطيّة اليونانيّة والقانون الرّومانيّ، أو الطّبقة الوسطى وحقوق الإنسان وقيم المساواة والتّسامح والحريّة، أو أخلاق ومبادئ المسلمين وآدابهم. هكذا تتطوّر أخلاق المجتمعات، فلسفة واقعيّة-مثاليّة، تأخذ شكل مبادئ وقضايا إيمانيّة.
إذن، خلاصة الأمر أنّه كلّما امتدّت/تعزّزت أنا الجماعة؛ ارتفع منسوب العدالة والحقوق والواجبات وتطلّعات التّقدّم، وفي سياقنا العربيّ والإسلاميّ، اتّسعت رقعة الأمّة، وعمّ الدّين والنّماء.