في خضم مواجهة شاملة خلفتها الصراعات الأخيرة فيما بين المسلمين والعرب من ناحية، و«إسرائيل» والغرب من ناحية أخرى، وتحيزات عنصرية كشفت عنها حرب غزة، تندفع نحو السطح تساؤلات جوهرية مكثفة، فيما العرب والمسلمون الذين أصابهم الذهول من هول المفاجأة التي أعقبت «طوفان الأقصى»، وفضحت أنظمة ودولاً وكيانات لطالما كانت بمثابة رمز للحياد والموضوعية والتحرر والإنسانية، بل كانت قبلة تعليمية وتربوية عليا لكثير من الأسر المسلمة.
إن غاية التربية في كل عصر هي المساهمة في تشكيل إنسان قوي العزيمة مستقل الشخصية قادر على مواجهة التحديات، والوصول بالأبناء إلى بر الأمان، حيث يتسلحون بإيمانهم بأنفسهم وقدراتهم في مواجهة التحديات خلال مشوار حياتهم الذي يجدر بهم خوضه بأنفسهم بعيداً عن الحماية الزائدة التي يُفسد بها كثيرون أبناءهم، أو التخلي الفج الذي يُضيع بعض الآباء به أبناءهم عبر الإهمال والتقصير.
وفي عصرنا هذا يتأتى أن تبذل التربية مزيداً من الجهد والطاقة في سبيل تنشئة أبناء الأسرة المسلمة على الاستقلال والصمود، لا بالمعنى الذي يريد به الغرب تضييع الأبناء والنشء عبر تحررهم من كل قيد أخلاقي أو وازع ديني وتركهم إلى الأهواء والنزعات والتلاعب ليقوم بدور الآباء، بل الاستقلال العقلي والفكري والوجداني الذي يتسلح بالقيم الدينية والأعراف الأخلاقية ويدرك ما للهوية من قيمة فائقة في صناعة الإنسان وحمايته من الوقوع فريسة لأي أفكار ومخططات تستهدف تغييبه وتدجينه وتجعلها هدفاً سهلاً لأي تلاعب فكري.
بين النصائح السليمانية والتربية الإبراهيمية
وحين نتأمل آيات الذكر الحكيم التي خطت لنا مبادئ التربية في منهاج الأنبياء عليهم السلام، نجد أن المنهاج التربوي النبوي قام بالأساس على مخاطبة العقل والقلب، وسعى إلى زرع بذور الإيمان والتقوى واليقين في نفوس الأبناء باستخدام الحجة والمنطق والتدبر في الكون، فقدم سيدنا سليمان عليه السلام نصائحه إلى ابنه عبر «العظة» التي تعني التوجيه والنصح دون الإجبار والإكراه، واستهلت طريقها نحو الابن بمخاطبة العقل والقلب عبر النهي عن الأفعال المكروهة؛ «لا تشرك بالله».. «لا تمش في الأرض مرحاً».. «واغضض من صوتك».
وتبرير الأسباب التي تستدعي تلك الكراهة؛ «إن الشرك لظلم عظيم».. «إن الله لا يحب من كان مختال فخور».. «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».
وهي النصائح التي عمدت إلى تعليم الإيمان وفهم حقيقة اليقين بالله والتفكر في الكون الكبير الذي لا تغيب فيه مثقال حبة من خردل عن إرادة الله سبحانه وتعالى، ومن ثم تشجيع الفهم والتعقل دون الانجرار إلى التلقي والتبعية التي قد تجعل الإنسان يمشي في الأرض مرحاً مصعراً خده للناس متعالياً بنفسه مغتراً بقدرته.
أما المنهاج الإبراهيمي فقد ذهب أبعد من الحض على التفكر والتدبر ومخاطبة العقل إلى إشراك الابن في اتخاذ القرار، رغم ما كان لهذا الإشراك من احتمال مخالفة لوحي إلهي صريح جاء في المنام للأب يأمره بذبح الابن عليهما السلام، وهو النهج الذي يحض على إثارة المسؤولية في نفوس الأبناء ودفعهم نحو التفكر والفهم وإمعان النظر في عواقب الأمور وإدراك ماهية عملية الاختيار وما يترتب عليها من نتائج محتملة.
التربية وصناعة الصمود
يشير الصمود إلى قدرة الإنسان على امتلاك قدرات نفسية وعقلية وأخلاقية تمكنه من الوقوف بثبات أمام ابتلاءات الحياة وتقلبات الزمن، وهي قدرات مكتسبة يتم تفعيلها بالأساس منذ مراحل الطفولة الأولى التي يقع على عاتق الأسرة مسؤولية نقلها إلى الأبناء، ولكن لكي يتم نقل تلك القدرات والخبرات للأبناء يجب أولاً أن تكون متوافرة لدى الآباء أو على أقل تقدير لديهم حد أدنى من الوعي بأهمية تلك القدرات بالمقارنة بغيرها من القدرات الخاصة بتعلم اللغات أو دراسة فروع العلوم المختلفة.
ويتكئ الصمود على فهم الأبناء والنشء لأفكار مهمة تتعلق بالمقاومة والاستقلالية والتبعية والهوية وغيرها من المفاهيم التي تُحفز العقل وتستثمر في النقد والتدبر وإمعان النظر في سائر ما يرد إلى الإنسان من أفكار ومعتقدات وأخبار ومعلومات، فتنشئة العقل تفوق تنشئة الجسد أهمية، وهو الأمر الذي تغفله كثير من الأسر المسلمة التي ترى في تحفيز العقل لدى الأبناء وإثارة التساؤلات خطراً أكثر منه فائدة، ويعتمدون بديلاً عن ذلك على منهاجية «لا تسأل»، ويتم زجر الأبناء لردعهم عن التساؤل وبخاصة فيما يتعلق باستفسارات الأطفال التي تطال الدين والإله والعالم، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تدجين الأبناء وطبعهم على قبول التلقي ويجعل عقولهم نتيجة لذلك أداة طيعة للتلاعب والإفساد.
التربية والهوية
ومن ناحية ثانية، ونتيجة لما طرأ على التعليم العربي من حملة قوية أطلق عليها «تطوير المناهج»، تم تهميش مواد التاريخ والتربية الدينية بالتحديد باعتبارها مواد غير ذات أهمية كبرى، ومن ثم تم تفريغها من مضمونها والعمل على تحييدها وتسطيحها، وهو ما يضع على عاتق الأسر مهمة إضافية بشأن الاهتمام بحماية عقول أبنائهم من خلال تلقينهم تاريخ أمتهم باعتباره جزءاً من عملية تربوية تستهدف إثارة الفهم والتعقل وإدراك الذات، والتعاطي مع التحيزات التي يجدر بهم اختيارها في مراحل مبكرة من أعمارهم، كي يتمكنوا في سني عمرهم التالية من تشكيل حائط صد مناعي ضد موجات التزييف والتغريب التي تستهدف النشء والشباب في أعمار صغيرة، ويسهم الجهل بأبسط حقائق التاريخ والدين كعامل رئيس يحفز التبعية ويجرد الشباب من أسلحة المقاومة الفكرية الأساسية للنجاة.
وأخيراً، فإن صناعة العقل المسلم يجب أن تكون محل التفات قوي من جانب الأسرة المسلمة، وهذه الصناعة قوامها تحرير العقل والفكر والحض على التدبر الذي هو مبدأ قرآني رئيس ومنهاج تربوي نبوي اتبعه الأنبياء، وقدموا قدوة صالحة في صناعة الإيمان القوي واليقين المطلق عبر التشجيع على التأمل في سير الأولين وسُنن الكون، وإدراك الحكمة الإلهية عبر تتبع مؤشراتها وعلاماتها عبر الماضي والحاضر، وهذا التحرر الحقيقي يبتغي التوصل إلى الله وإعمال إرادته في نفس الإنسان والالتزام بأوامره والامتناع عن نواهيه عن اقتناع وفهم، بما يخلق جيلاً أكثر صلابة في وجه التحديات التي باتت غير خافية وتتم بشكل صارخ مستهدفة عقول الشباب وقلوبهم حيناً، ومستهدفة التصفية والإرهاب والقتل أحياناً أخرى.