تعتبر شبكات التواصل الاجتماعي من الوسائل الحديثة التي تمثل جزءاً أساسياً في الحياة المعاصرة ولمختلف الفئات العمرية، وذلك لسهولة استخدامها، وتوفرها في الأجهزة الحديثة، وقلة تكلفتها، وسرعة تداول المعلومات فيها، وتنوعها من الكتابة إلى الصورة وحتى الفيديو، وانتشارها بين مختلف الأوساط مما جعل الاستغناء عنها أمراً صعباً مستهجناً من الآخرين.
فقد نجحت هذه الشبكات في أن تحول العالم كله من حولنا بسبب هذا التطور الهائل إلى قرية صغيرة، فصار بإمكان أي أحد أن يتواصل مع أي أحد، وأن يشاهد ويتابع ما يحدث في أي زاوية من الكرة الأرضية، وما يقع في جنباتها.
ومع كل هذه الامتيازات المغرية، فإن لهذه الوسائل تبعات ثقيلة، ومسؤوليات كبيرة يتحملها كل من له تعامل معها على حسب حاله.
والناس مع هذه الوسائل على 3 أحوال: متلقٍّ، أو ناشر، أو متواصل مع الآخرين؛ فالمتلقي يبوء بتبعة الشهودية، والناشر يتحمل تبعة المصداقية، والمتواصل عليه تبعة المحرمية.
التبعة الأولى: الشهودية:
ونقصد بالشهودية: المشاهدة الواضحة المتحققة التي لا لبس فيها ولا غموض، حيث جعلت هذه الوسائل من يتابعها ويتعامل معها يشاهد الأحداث وكأنه يعيش في ذاك العالم الذي يتابعه ومع ذاك الشخص الذي يحادثه، فيرى ويسمع ويدرك ما يحدث هناك لحظة بلحظة، فصار بإمكان الطالب أن يحضر دروسه مباشرة وكأنه في قاعة المحاضرات، وبإمكان المسؤول أن يعقد اجتماعاته مع موظفيه مباشرة وكأنه بمكتبه، وبإمكان أي أحد أن يتابع التطورات الميدانية والعسكرية في أي مكان من العالم، وإذا كان الأمر كذلك فإن استعمال هذه الوسائل يلقي بتبعية الشهودية ومسؤولية الحضورية على عاتق من يستخدمها.
ففي الحديث: «إذا عُمِلتِ الخطيئةُ في الأرضِ؛ كان من شهِدَها فكرِهَها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيَها كان كمن شهِدَها»(1)، فقول النبي ﷺ: «كان من حضرها» لم يعد قاصراً على من حضرها حضوراً ذاتياً، وإنما قد يحمل الآن على من شاهدها خلف الشاشات وعلم بها عبر وسائل الاتصالات.
ويكمن الخطر في قول النبي ﷺ: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»، وفي رواية: «إِنَّ النَّاس إِذا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَم يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيه أَوشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ»(2).
حيث إن دائرة الحضورية، ومساحة الرؤية والشهودية قد اتسعت على الناس، فبعدما كانوا لا يرون من المنكرات إلا ما أحاط بهم، وما وسعته دوائرهم وطرقاتهم، أصبح الناس يرون المنكرات التي تقع في العالم كله مباشرة على شاشاتهم وكأنها أمامهم رأي عين، صفحات متنوعة، وأفلام إباحية، وصور عارية، وإعلانات فاضحة، وموسيقى صاخبة، قتل وتفجير، وحرب وتدمير، ظلم واعتداء، رقص وغناء، غش في البيع والشراء، ومع كثرة هذه الوقائع وتزاحم الأحداث، ورقة الدين، وإطباق الغفلة على القلوب، ألف الناس -إلا من رحم ربي- رؤية المنكرات، وأصبحت بالنسبة إليهم أمرًا معتادًا، ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم!
وأعظم ما في الأمر أن الناس أصبحوا لا يبالون بمشاهدة هذه الذنوب المهلكة، ولا يغضون البصر عنها، فضلًا عن إنكارها أو السعي في تغييرها، وهذا من شأنه أن يعجّل بعقاب من الله على العباد، فيعمهم بعذاب أو طاعون، أو زلزال، أو طوفان، أو غلاء أو وباء من عنده سبحانه ليتوبوا ويرجعوا إليه.
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِذَا ظَهَرَتِ المعاصي في أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُنَاسٌ صَالِحُونَ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَتْ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ أُولَئِكَ: قَالَ: «يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ»(3).
وقد ذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين، حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنى، وشربوا الخمر، وضربوا المعازف غار الله عز وجل في سمائه؛ فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم(4).
التبعة الثانية: المصداقية:
والمصداقية كلمة مشتقة من الصدق الذي هو ضد الكذب، وتشير إلى معنى الجدية والمطابقة وعدم النقص أو الزيف، فالصِّدْقُ: مطابقة الكلام للواقع.
والمصداقية في النشر والتوجيه، تبعة شرعية ثقيلة على كاهل صناع المحتوى بكل ألوانه سواء كان فنيًا، أو ثقافيًا، أو تجاريًا، أو تعليميًا.. إلخ، فبدونها يلتحق الناشر بصفوف المنافقين الكذابين الذين يقولون ما لا يفعلون.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان» (متفق عليه)، زاد في رواية لمسلم: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
قَالَ الشيخ ابن عثيمين: إذا رأيت الرجل يكذب إذا حدَّث؛ فهو منافق؛ لأن أصل المنافق مبني على التورية والستر، يستر الخبيث ويظهر الطيب، يستر الكفر ويظهر الإيمان، فالكاذب كذلك يخبر بخلاف الواقع(5).
وإن من أعجب ما ترى في هذا العالم الافتراضي، أن ترى الشخص الواحد ربما يطل على المجتمع بأكثر من وجه، له وجه طيب خلوق يتفاعل به مع أهل الدين والالتزام، وله وجه كالح يتواصل به مع أهل الفسوق والعصيان، فمن كان كذلك كان من شرار الخلق عند الله، قال النبي ﷺ: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ» (متفق عليه).
هو منافق ومتملق يظهر للناس ما لا يدل على حقيقته، مخادع، يروغ روغان الثعالب، ويظهر لكل شخص وكل طائفة أنه معهم دون غيرهم.
فالناشر عندما يكون واقعيًا صادقًا، أهدافه واضحة سامية يوفقه الله ويضع له القبول بين الناس.
التبعة الثالثة: المحرمية:
ويقصد بالمحرمية: من لهم صفة المحرم بالنسبة للمرأة، والمحرم: هو ذو الحرمة، والحرمة: هي ما لا يَحِلُّ انتهاكُه من ذِمّة أَو حقٍّ أَو صَحبة أَو نحو ذلك(6).
ومَحْرَم المرأة هو من لا يحل له التزوُّج بها لرحِمِه وقرابته، كالأخت، والبنت، والعمة، والخالة.. إلخ.
وتبعة المحرمية تبعة ثقيلة تساهَلَ فيها كثير من الناس على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى وصلوا إلى حد التفريط وتركوا الهواتف الذكية بما فيها من نوافذ مطلة على العالم بأسره دون رقيب، فصرنا نرى الشباب يتساهلون في التواصل مع الفتيات، أو العكس، تواصلًا جريئًا من خلال المنتديات، وغرف الدردشة، والتعليقات على صفحات المشاهير، والجروبات الخدمية، ثم يتطور التواصل حتى يصل إلى المحادثات المنفردة، والاتصالات الخاصة، بل وربما تطور الأمر إلى المكالمات المرئية، وذلك دون مراعاة للمحرمية، أو الالتزام بالضوابط الشرعية التي وضعها الفقهاء للتواصل بين الجنسين عبر هذه الشبكات، وعلى رأسها وجود المَحْرم.
إن التواصل بين الجنسين على شبكات التواصل في ظل غياب المحرمية، فيه شبهة دخول على النساء، وفيه خلوة شرعية، حذر منها النبي ﷺ فقال: «ألَا لا يَخْلُوَنَّ رجُلٌ بامرأةٍ لا تَحِلُّ له؛ فإنَّ ثالثَهما الشَّيطانُ، إلَّا مَحْرَمٌ؛ فإنَّ الشَّيطانَ مع الواحدِ، وهو مِنَ الاثنَينِ أَبْعَدُ»(7).
يقول د. طه الزيدي: وذهب بعض العلماء المسلمين إلى عدم جواز المحادثة المباشرة بين الجنسين عبر مواقع التواصل الاجتماعي لوجود الشبهة وتحقق الخلوة، في حين جوّزها بعضهم الآخر عند الضرورة بشرط حضور أحد محارم المرأة أمام الحاسوب أو الهاتف، ليطلع على ما يدور من حديث بينهما، ولذا يمكننا القول: إن الضوابط الشرعية في المحادثة بين الجنسين في هذه الشبكات هي نفس الضوابط الشرعية المتبعة في المحادثات التي تحدث بين الناس بصورة مباشرة، يحل فيها ما يحل في المحادثة المباشرة بين الناس ويحرم فيها ما يحرم في الحديث العادي بين الناس(8).
فإذا تحققت الخلوة لزم حضور المحْرم، وإلا فهو اجتماع محرم وخطأ مُجَرّم، والله تعالى أعلى وأعلم.
_____________________________
(1) رواه أبو داود والطبراني، وصححه الألباني.
(2) صحيح، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.
(3) رواه أحمد والطبراني في الكبير، وصححه الألباني.
(4) الداء والدواء، ابن القيم.
(5) شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين.
(6) المعجم الوسيط، وقاموس المعاني.
(7) رواه أحمد، صححه الأرناؤوط.
(8) مجلة البيان.