أخرج الإمام أحمد والترمذي عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً، فَخَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ بِالْبَقِيعِ، فَقَالَ: «أَكُنْتِ تَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَتَيْتَ بَعْضَ نِسَائِكَ! فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْزِلُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعَرِ غَنَمِ كَلْبٍ».
ففي الحديث الشريف تأكيد على سعة مغفرة الله في ليلة النصف من شعبان، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثال في ذلك بعدد شعر غنم كلب؛ لأن قبيلة كلب كانت أكثر القبائل العربية غنماً آنذاك.
لكن هذه المغفرة الكثيرة والرحمة الكبيرة ممنوعة ومحجوبة عن ثلاثة أصناف من الناس، وقد ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة.
فمن هم الممنوعون من المغفرة في ليلة النصف من شعبان؟
أولاً: الشرك بالله:
وهو يعني أن يشرك العبد مع الله تعالى ما ينبغي أن يكون لله وحده، ويدخل فيه توجيه العبادة أو السؤال أو النذر أو التوكل أو الاستغاثة بغير الله سبحانه وتعالى، فهذه كلها مظاهر للشرك بالله تعالى، وكلها محرمة في الإسلام.
وقد أكد الله تعالى أن الشرك به من أخطر موانع المغفرة، بل إثم عظيم، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 48)، وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبد الذي يقع في الشرك بالله تعالى ممنوع من المغفرة في ليلة النصف من شعبان، ففي صحيح ابن حبان عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَلَيه وسَلم قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَاّ لِمُشْرِكٍ، أَوْ مُشَاحِنٍ».
ثانياً: الشحناء:
فقد اشتمل الحديث السابق على الشرك بالله والشحناء كأهم الموانع لحصول المغفرة في ليلة النصف من شعبان، فما الشحناء؟ هي العداوة والبغضاء بين الناس، والمشاحن هو الذي يخاصم الناس وينازعهم ويقاطعهم بغير وجه حق.
والشحناء مانعة للمغفرة ودخول الجنة، حيث روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا»، فالصلح بين الناس ودوام الصلة في طاعة الله السبيل إلى إزالة الشحناء وتحقيق المغفرة ودخول الجنة.
ثالثاً: قتل النفس:
روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ؛ مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ».
ففي الحديث تأكيد على حجب المغفرة عن قاتل النفس، حتى يتوب، وذلك من أجل تغليظ هذا الذنب وزجر الناس عنه ومنعهم من الوقوع فيه.
إن الله تعالى يغفر لعباده في ليلة النصف من شعبان، ولا يحجب مغفرته إلا عمن ساءت علاقته بربه فأشرك معه غيره، كما يحجبها عمن ساءت علاقته بالناس، فخاصمهم وقاطعهم وقتلهم بغير وجه حق.