تعرضنا في العدد السابق لمدى الارتباط بين فلسطين -كأرض مباركة ومهبط للرسالات- والإسلام من خلال الكتاب والسُّنَّة وسيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وأنها ما تعرضت للغزوة الصليبية الأولى (492هـ/ 1097م) وللغزوة الثانية (1917م) بقيادة اللنبي، ثم للنكبة الكبرى (1948م)، إلا من أجل هذا المعنى، لذلك فإن ارتباط قضية فلسطين بالإسلام واهتمام المسلمين بها أمر مستمر لا ينتهي دون التحرير الكامل وإعادتها -شأن كل بلاد المسلمين- إلى حكم الله.
وموضوع هذا الفصل سيكون تأريخياً موجزاً للخمسين سنة الأخيرة التي أدت إلى سقوط فلسطين في يد اليهود، حتى يتبين الجيل المسلم المؤامرة التي تعرضت لها فلسطين، وكم تستدعيه عملية التحرير من طاقات، وحتى يدرك المسلمون كم من الجهود بذلت وكم من الدماء سالت على أرض فلسطين، وأن أهلها لم يتخلوا عنها إلا بعد أن بانت المؤامرة أكبر من كل التضحيات، سواء في ذلك تآمر الأعداء أو ظلم ذوي القربي، محيطين بالظروف التي كانت تعانيها المنطقة والتفسخ الذي يسيطر عليها.
مشروع الدولة اليهودية
كانت عملية تجميع اليهود فكرة تراود زعماء الجاليات اليهودية في الشتات بشكل أو بآخر، لكن أول طرح جدي كان عبر کتاب أصدره تيودور هرتزل في برلين عام 1896م بعنوان «الدولة اليهودية»، وقد تلاقت جهود هرتزل مع حاييم وايزمن، فكان المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في مدينة بال بسويسرا بتاريخ 29 – 31/ 1897م الذي أوصى بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وتوالت المؤتمرات الصهيونية بعد ذلك مرة أو مرتين كل عام إلى أن كان المؤتمر السادس في لندن عام 1900م، حيث طرح وزير خارجية بريطانيا لورد لاند سداون فكرة منح اليهود وطنا قومياً في شرقي أفريقيا (أوغندا) ورُفعت خريطة أوغندا بدلاً من خريطة فلسطين في قاعة المؤتمر، وطُرحت الفكرة للتصويت فنالت أغلبية ضئيلة نتيجة رفض يهود روسيا لها، وهم الذين كانوا مؤهلين للهجرة بسبب الاضطهاد الذي نزل بهم تحت حكم القياصرة وانتهى الأمر عندما تقدمت فتاة يهودية ومزقت الخريطة، وأعيد طرح فلسطين كوطن قومي.
كان زعماء الجاليات اليهودية قد بذلوا محاولات حثيثة منذ عام 1896م للاتصال بالسلطان عبد الحميد من أجل إزالة العقبات التي تحول دون إقامتهم في فلسطين، وبعد 5 سنوات كان اللقاء اليتيم بالسلطان، وقد كتب هرتزل في مذكراته عن جواب السلطان له: «انصحوا د. هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع».
إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك شعبي (….) إنني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة.
بعد سقوط الخلافة
وبعدها أصدر السلطان أمراً عام 1901م يحظر فيه على اليهود شراء الأراضي في فلسطين بعد أن كان قد منع إقامتهم في القدس عام 1880م، ولم يستطع اليهود تحقيق أي تقدم في إطار الإقامة أو امتلاك الأراضي إلا بعد خلع السلطان وتولي حكومة الاتحاد والترقي، فقد ألغيت عام 1912م مواقع الهجرة إلى فلسطين، وفي عام 1914م رفع الحظر عن امتلاك الأراضي.
في هذا الوقت تصعدت عمليات اضطهاد اليهود في روسيا ودول أوروبا الشرقية كما توالت اجتماعات المؤتمر الصهيوني، فقد أنشأ عام 1899م صندوق الائتمان اليهودي، وعام 1901م أقام الصندوق القومي اليهودي، وأبرم في مؤتمره الثامن عام 1907م في لاهاي أن تكون فلسطين هي الوطن المنشود، وخاطب وايزمن رئيس وزراء بريطانيا قائلاً: لو أن موسى نفسه جاء يدعو اليهود إلى غير فلسطين لما تبعه أحد.
ومرت فترة من الركود السياسي في المنطقة كان خلالها زعماء اليهود يتابعون اتصالاتهم بزعماء كل من بريطانيا وأمريكا وفرنسا، وبقادة الثورة الشيوعية اللاجئين إلى سويسرا أمثال لينين وتروتسكي، وفي هذه الفترة قام وايزمن بعدة زيارات لفلسطين، يقول عنها في مذكراته: لقد كان لكل الناس مواطئ قدم ومؤسسات في القدس عدا اليهود، فلم تكن لنا فيها عمارة واحدة.. ويقول بأن عدد اليهود في فلسطين عام 1917م لا يزيد على 50 ألفاً.
وعد بلفور
وفي الوقت الذي كان العرب يراهنون فيه على وعود بريطانيا للشريف حسين بمنح الاستقلال عبر رسائل متبادلة مع هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر عام 1915 – 1916م، كان وايزمن يضغط من أجل أن ينال ضمانات حقيقية من بريطانيا بالمساعدة على إقامة الوطن القومي في فلسطين، إلى أن صدر ما سُمي بـ«وعد بلفور» (لورد جيمس آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا)، في 2 نوفمبر 1917م الذي ينص على «أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وسوف تبذل كل مساعيها من أجل بلوغ هذه الغاية..»، وقد منحت كل من فرنسا والولايات المتحدة موافقتها المسبقة على هذا الوعد وتعهدت بتأييده.
بعد ذلك بأيام (1917/11/9) دخلت القوات البريطانية مدينة القدس بقيادة الجنرال اللنبي بمساعدة عربية على أنها سوف تحرر العرب من الأتراك ثم تمنحهم الاستقلال، وفي بداية عام 1918 كانت القوات الفلسطينية، كجزء من اتفاقية سايكس – بيكو السرية التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا عام 1916م، وهي تنص على تقاسم ممتلكات الإمبراطورية العثمانية المنهارة بين الدول المنتصرة.
وعندما انتصرت الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 افتضح أمر الاتفاقية لأنها وقعت بحضور مندوب روسي وعلى أرض روسية.. وبهذا تسربت أخبارها وأدرك العرب أن وعود بريطانيا لهم كانت مجرد سراب، وبدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تنفيذا للوعد المشؤوم، وبدأ التحرك العربي في فلسطين ضده.
ثورة البراق
ازداد عدد اليهود من عام 1918 حتى 1928م ثلاثة أضعاف (كما يقول وايزمن في مذكراته) فقد أصبح 175 ألفاً وأنشؤوا مؤسسات، أهمها: الجامعة العبرية في القدس، والوكالة اليهودية التي نص عليها صك الانتداب.
وبرزت زعامة الحاج أمين الحسيني فشكل في دمشق الجمعية الفلسطينية العربية مع عارف العارف وعزة دروزة، وكان هذا تمهيداً لمرحلة جديدة من الصراع.
– في 14 أغسطس 1929 (يوم الغفران) خرجت مظاهرات يهودية تطالب بحائط البراق (المبكى)، وفي اليوم التالي تجمعوا وتوجهوا إلى القدس.
– في 16 آب (يوم جمعة وذكرى المولد النبوي) توافد المسلمون على القدس وخطبهم الشيخ حسن أبو السعود قائلاً: الله أكبر، يا مسلمون.. إن الله أسرى بنبيكم إلى هذا المكان حافظوا عليه وصونوه، فثارت الجماهير المحتشدة في الأقصى وتوجهت إلى حائط البراق وأحرقت المنصة التي وضعها اليهود.
– في اليوم التالي تحول خلاف بين مسلم ويهودي إلى مهاجمة محلات اليهود في القدس.
– يوم الجمعة 23 أغسطس طوق البوليس البريطاني المسجد الأقصى وفتش المصلين، فوصل الخبر إلى بقية المدن بأن اليهود احتلوا الأقصى فكانت ردة الفعل عنيفة.
– هاجم المسلمون في الخليل الحي اليهودي فقتلوا 60 يهودياً وجرحوا 50.
– وفي نابلس هاجم المتظاهرون مركز البوليس واستولوا على السلاح، فقتل 9 من العرب، إضافة إلى أحداث مشابهة في بقية المناطق.
– في 26 أغسطس هاجم اليهود مسجد عكاشة في القدس، وقد سقط نتيجة الأحداث 133 يهودياً وجرح 339، وفي الجانب العربي سقط 119 شهيداً، و232 جريحاً.
وتشكلت لجنة بريطانية لتحديد ملكية ساحة البراق، وبعد التحقيق والاستماع إلى وجهات نظر الفريقين خلال عامين أثبتت اللجنة ملكية المسلمين لحائط البراق وساحته.
المؤتمر الإسلامي الأول
في ذكرى الإسراء والمعراج (27 رجب 1350هـ/ 1 ديسمبر 1931) انعقد المؤتمر الإسلامي الأول لفلسطين برئاسة الحاج أمين الحسيني، وقد حضر المؤتمر مندوبون عن المدن والقرى الفلسطينية، كما حضره عدد كبير من زعماء العالم الإسلامي وقد خرج المؤتمر بتوصيات عامة.
– في أكتوبر 1933م قامت مظاهرات وأحداث عنف في معظم المدن والقرى الفلسطينية احتجاجا على دور بريطانيا في هجرة اليهود.
– في ٢٥ يناير 1935م عقد في القدس مؤتمر عام حضره 500 شخصية فلسطينية ورجال دین مسلمون ونصارى وأصدر المؤتمر قراراً يحظر بيع الأراضي لليهود(1).
____________________
(1) نشر هذا المقال في العدد (859)، 4 شعبان 1408هـ/ 22 مارس 1988م.