يقدم كتاب «في فقه الصراع على القدس وفلسطين» رؤية شاملة حول تاريخ وجذور الصراع بين الغرب والشرق، ومحورية القدس كهدف رئيس للحملات الصليبية التي شاركت فيها أوروبا، وجعلتها حرباً عالمية على الإسلام.
الكتاب الصادر عن «دار الشروق»، القاهرة عام 2005م، يحظى بأهمية كبيرة، كون مؤلفه المفكر الإسلامي البارز العالم الراحل د. محمد عمارة، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، أحد أبرز المفكرين العرب المنافحين عن فلسطين.
تزداد أهمية التنقيب في طيات الكتاب مع استعراضه تاريخ التنظيمات الجهادية في فلسطين بدءاً بجماعة الشيخ محمد عزالدين القسام (1882 – 1935) ثم الشيخ أحمد ياسين، المؤسس الروحي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تخوض برفقة فصائل المقاومة الفلسطينية حرباً ضروساً دفاعاً عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ملحمة «طوفان الأقصى» للشهر السادس على التوالي.
ما يجذب الانتباه، وقد عرج عليه د. عمارة بشكل تاريخي، أن مركزية الصراع على القدس قد بدأت قبل الغزو الصليبي، وتحديداً بعد اقتلاع الإسلام من الأندلس، حيث أدار الصليبيون البوصلة باتجاه أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام 1492م.
هذا التحول عبر عنه الرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبس حينما كشف أن أحد أهدافه من رحلاته إلى أمريكا وجمع الذهب هو القدس، وقد كتب إلى القيادة الصليبية الممثلة يومئذ في الملكين فرديناند وإيزابيلا، الرسالة الوثيقة التي تؤكد ضرورة توجيه الحملة الصليبية لانتزاع فلسطين من أيدي المسلمين.
وتميط الرسالة التي سطرها في 26 ديسمبر 1492م، اللثام عن هدف الرحلة الحقيقي، الذي لم يكن الطواف حول أفريقيا والذهاب إلى جزر الهند الغربية لتحويل تجارة الشرق عن الطريق الإسلامي لإضعاف المسلمين فقط، بل تطويق العالم الإسلامي والانقضاض على القدس.
من وجهة نظر د. عمارة، فإن كولومبس كان يقود مشروعاً لإعادة الاحتلال الصليبي للقدس، وهو مستمد من سفر الرؤيا وملخصه أن تنصير كل البشر، واحتلال بيت المقدس للمرة الثانية، شرطان ضروريان للمجيء الثاني للمسيح.
ومن الجدير بالذكر، الإشارة إلى أنه مع أهمية هذه الوثائق، فلم تصدر لها ترجمة إنجليزية كاملة مبكرة باستثناء بعض المقتطفات.
معركة «هرمجدون»
المؤلف الراحيل يؤكد، في طيات كتابه، الطبيعة الأيديولوجية الدينية للمسيحية الصهيونية، التي ترى ضرورة اغتصاب القدس، واحتلال فلسطين، وإقامة الهيكل اليهودي على أنقاض المسجد الأقصى، وقيام معركة «هرمجيدون» التي سيباد فيها المسلمون، وعودة المسيح ليحكم العالم.
وفق د. عمارة، فإن اليهود مجرد كيانات وظيفية بمثابة قاعدة استعمارية للغرب، الذي يصر على الهيمنة والسيطرة على مقدرات الأمة العربية، والحيلولة دون نهوض المسلمين، وعودة النموذج الحضاري للإسلام.
ويستعيد المؤلف من ذاكرة التاريخ خطاب البابا أوربان الثاني (1088 – 1099م) في فرسان الإقطاع الأوروبيين عام 1095م في كليرمونت بجنوبي فرنسا، قائلاً: «يا من كنتم لصوصاً كونوا اليوم جنوداً.. لقد آن الزمان الذي فيه تحولون ضد الإسلام تلك الأسلحة التي أنتم تستخدمونها بعضكم ضد بعض، فالحرب المقدسة المعتمدة الآن هي في حق الله عينه وليست لاكتساب مدينة واحدة، بل هي أقاليم آسيا بجملتها مع غناها وخزائنها العديمة الإحصاء».
وقد مثل الاستيلاء على مدينة القدس الذي كان الهدف الأسمى للحملة الصليبية الأولى (1095 – 1102م)، باكورة المشروع الصليبي برعاية البابوية وبمشاركة الأمراء الأوروبيين، إلى أن سقطت المدينة المقدسة يوم 15 يوليو عام 1099م، وقد أباحوها للسلب والنهب والقتل، فسال الدم وظلت الجثث في الشوارع عدة أيام.
صراع ديني
«فقه الصراع على القدس وفلسطين»، يسلط الضوء كذلك على مركزية الدين في الصراع القائم حول القدس، متهماً العلمانيين والليبراليين بمحاولة تبريد هذا البعد، وإقصائه عن الميدان، فضلاً عن محاولة إضفاء الإنسانية بتصوير المعاناة التي يكابدها اليهود.
ويرجع د. عمارة هذا التوجه إلى التغريب والانبهار بالنموذج الحضاري الغربي الذي طبع المثقف الليبرالي، وخلف معه ثقافة التبعية والعجز عن نقد الغرب، وصولاً إلى غض الطرف عن أخطار هذا المشروع الصليبي الصهيوني، وآثاره الكارثية على فلسطين والأمة الإسلامية.
ويعيد الكتاب الاعتبار لفريضة الجهاد والاستشهاد كسبيل لتحرير الأرض والمقدسات، وكيف استنفر الغزو الصليبي روح الجهاد الإسلامي لتحرير القدس وفلسطين فقامت دول الفروسية الإسلامية -الدولة الزنكية والمملوكية والأيوبية- لتعيد تحرير الشرق، ويعلن صلاح الدين الأيوبي في رسالته إلى الملك الصليبي ريتشارد قلب الأسد (1157 – 1199م)، قائلاً: «القدس إرثنا كما هي إرثكم.. من القدس عرج نبينا إلى السماء وفي القدس تجتمع الملائكة».
ختاماً، يمكن اعتبار الكتاب قراءة جادة وقيمة وجديرة بالمتابعة لجذور الصراع على القدس وفلسطين والمسجد الأقصى، كمركز للصراع الإمبريالي الغربي التاريخي ضد الشرق الإسلامي، مع كشف محاولات تسطيح وتزييف المعركة، وأن الصراع قد بدأ مع قيام الكيان الصهيوني عام 1948م، أو أن تاريخه لا يعدو «وعد بلفور» عام 1917م، بل الحقيقة أن هوية هذا الصراع التاريخي والأبعاد الفكرية والعقدية والدينية التي تقف وراءه، وتغذي جذوته، تعود إلى قرون مضت، وأن الإسلام هو هدف تلك المعركة.