تعد التجربة الماليزية من التجارب التنموية الجديرة بالاهتمام والدراسة لما حققته من إنجازات كبيرة يمكن أن تستفيد منها الدول النامية كي تنهض من حالة التخلف.
يقول الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستجليتز، الحائز على جائزة «نوبل» في الاقتصاد عام 2021م: إنه منذ 40 عاماً كانت ماليزيا من أفقر الدول في العالم، وبعد استقلالها لم تتبع توجهات وتعليمات المؤسسات الدولية، بل اختارت أن تتبع النماذج التنموية الناجحة لجيرانها الآسيويين.
الإصلاح الاجتماعي والسياسي من أهم عوامل النجاح
هذا ما دفع الباحث المصري إسلام المنسي للسفر إلى ماليزيا ودراسة أوضاعها التنموية والسياسية على مدار عدة أشهر، وخرج برؤية شاملة في كتابه «الوجه الآخر لماليزيا».
أسرار مشروع النهضة في ماليزيا كانت محور لقاء «المجتمع» مع المنسي.
لماذا تعد ماليزيا نموذجاً ملهماً في النهضة الإسلامية؟
– تعد ماليزيا من التجارب الناجحة في النهضة إذا ما قيست بأي مقياس للنجاح، فالناتج المحلي الإجمالي تضاعف بشكل كبير وسبقت بمراحل دولًا كانت تسبقها، وكذلك متوسط مستوى دخل الفرد سنويًا ارتفع، وأيضًا انعكس هذا النمو الاقتصادي ليس ماليًا فقط، بل على كافة القطاعات، وصارت هناك تجربة رائدة ملهمة تمثل نبراسًا للدول النامية عمومًا والإسلامية خصوصًا، ومقارنة بغيرها من النمور الآسيوية؛ استطاع الماليزيون انتزاع قصب السبق منذ نهاية التسعينيات حينما تجاوزوا الأزمة المالية آنذاك وتمردوا على صندوق النقد الدولي.
ما شروط النهضة الماليزية وعوامل نجاحها؟
– يعد من أبرز عوامل النهضة الماليزية أنها ليست مجرد نهضة اقتصادية يمكن رؤيتها في أرقام ناتج الإجمالي المحلي، بل قامت على فلسفة تعنى بالإصلاح الاجتماعي والسياسي والأمن القومي للدولة، وعلى هذا الأساس؛ فإن قادة الملايو أطلقوا هذا المشروع كحل وحيد للانقسامات التي كادت أن تعصف بالجسد الماليزي ووحدته.
وتفصيل ذلك أن دولة ما بعد الاستعمار ورثت وضعًا قابلًا للانفجار يتمثل في وجود أقلية صينية لا تتحدث بلغة البلاد ولا تدين بدينها ولا تمتزج بأهلها، وفي الوقت نفسه تسيطر على الاقتصاد والثروات، في مقابل أغلبية مسلمة فقيرة ومحرومة.
ماليزيا قدمت نماذج مهمة ومنضبطة تحت شعار الاقتصاد الحلال
ولم تكن تلك القسمة في ذاتها كل المشكلة، بل كانت الوقود الذي ينتظر أقل عود ثقاب ليشعله، فحينما حقق الصينيون نتائج جيدة في انتخابات عام 1969م وخشيت الأغلبية الملاوية المسلمة من أن يحرز الصينيون نجاحًا سياسيًا يوازي نجاحهم الاقتصادي؛ وبالتالي يتم تهميش السكان الأصليين بالكامل داخل بلادهم، حينها انفجر العنف الطائفي وسالت الدماء، وفي أعقاب هذه الاضطرابات خرج مشروع النهضة الماليزي من رحم هذه المحنة بناءً على فلسفة التمييز الإيجابي لصالح الأغلبية الفقيرة من أجل رأب هذه الهوة بعدما أدركوا شدة هشاشة الواقع الاجتماعي في البلاد.
وبناء على ذلك، انطلق مشروع النهضة الماليزي وفقًا لرؤية تقوم على تحقيق العدالة الاجتماعية وعدم استئثار أقلية صغيرة بمقدرات الوطن دون اللجوء للتأميم والمصادرة والإكراه.
ما الأصول التي راعتها التجربة الماليزية في النهوض؟
– استطاعت ماليزيا أن تنجح وفق مبدأ إغناء الفقراء وليس إعادة توزيع الثورة بشكل قسري، فلم يتم إعادة توزيع الكعكة بين المكونات المجتمعية المختلفة، بل الإتيان بكعكة إضافية بهدف تعويض أصحاب الأنصبة القليلة في الكعكة الأولى، فالأغلبية المسلمة استفادت من هذا المشروع دون أن يكون على حساب الأقليات الأخرى.
النجاح الحاصل اعتمد فلسفة التمييز الإيجابي لصالح الأغلبية الفقيرة
وفي هذا الإطار، قدمت الحكومات الماليزية المتعاقبة نماذج مهمة تندرج تحت عنوان «الاقتصاد الحلال»؛ بما يشمل التعاملات المالية المنضبطة بقواعد الفقه، والطعام الحلال والسياحة التي تستهدف جذب الزوار المسلمين من خلال توفير أماكن ترفيهية تحترم معتقداتهم، وصندوق الحج الماليزي (تابونج حجي) الذي يعد من المشاريع الاقتصادية الضخمة الملهمة لدول العالم الإسلامي.
ما دور القيادة السياسية في تحقيق الحكم الرشيد والتنمية بماليزيا؟
– للقيادة السياسية دور في تحقيق الحكم الرشيد والتنمية في ماليزيا؛ فقد تمتعت بقيادة كاريزمية تمثلت في رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد، الذي رغم أنه ليس منشئ مشروع النهضة الماليزي، بل رئيس الوزراء الأسبق نجيب عبدالرزاق، لكنه استطاع أن يديره بنجاح.
كيف ساهم النظام السياسي بماليزيا في تحقيق التنمية؟
– في المجال السياسي، استطاع تحالف الأمنو الحاكم تمثيل جميع العرقيات والمجموعات الدينية المختلفة؛ ولذلك شكل الاستقرار السياسي الطويل القاعدة التي قامت عليها النهضة الاقتصادية.
فبعد اضطرابات عام 1969م تشكل التحالف الحاكم بتركيبة تضمن الاستقرار؛ وبالتالي التفرغ للتنمية وتحسين الخدمات، وهو ما تم بالفعل رغم التقلبات السياسية المتعددة، لكنها لم توقف المسيرة، بل إن بعضها كان بمثابة محاولة الحفاظ على المسيرة من الانحراف عن خطها ونهجها.
كيف استطاعت ماليزيا جمع شعبها المتباين عرقيًا ودينيًا على مشروع واحد؟
– لا تخلو ساحات السياسة من الاختلافات والمنافسات، وماليزيا شهدت خلافات سياسية حادة أطاحت بحكم معظم من تولوا رئاسة الحكومة بعد مهاتير محمد، بل أطاحت بحكم حزب الأمنو الذي حكم البلاد معظم تاريخها، ولكن الجميع احترم قواعد اللعبة ولم يخرج عن إطارها، واليوم هناك استقطاب كبير حول مشروع تقنين الشريعة الإسلامية، وكذلك جدل حول حماية الحقوق السياسية للملايو، وسط تصاعد غير مسبوق لشعبية الحزب الإسلامي، بالتوازي مع موجة تنتشر بين الشباب الماليزي لتأييد الاحتكام إلى الشريعة، خاصة بعد صعود «طالبان» في أفغانستان وروح التعاطف مع حرب غزة.
ما أوجه التشابه بين التجربة الماليزية وتجربتي سنغافورة وبروناي؟
– طبعًا هناك اختلافات كثيرة رغم التجاور الجغرافي، فبروناي وسنغافورة كلتاهما دولة صغيرة، والعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تفرض نفسها وتصنع خصوصية كل تجربة، فبالنسبة لبروناي فهي دولة غنية لكنها صغيرة واقتصادها يعتمد بشكل كبير على تصدير النفط والغاز الطبيعي، وحققت أحد أعلى مستويات الدخل السنوي للمواطنين في العالم، ونسيجها المجتمعي نفس نسيج الأغلبية الماليزية، فهم مسلمون مالايو مثلهم.
الإنسان عماد النهضة هناك.. وتطوير التعليم كل شيء
أما سنغافورة فالأمر مختلف، إذ كان اختلاف تركيبة النسيج الاجتماعي فيها سببًا في انفصالها عن الاتحاد الماليزي بعد وقوع اضطرابات طائفية، واستطاعت هذه الدولة المدينة تحقيق معدلات نجاح اقتصادي عالية بعد أن أصبحت مركزًا لوجستيًا عالميًا مهمًا على طريق التجارة بين الغرب والشرق.
نعلم أنك سافرت لدراسة التجربة الماليزية ونشرت كتابًا عن هذا الموضوع، فما أبرز ما خرجت به في هذه الرحلة البحثية؟
– أكثر ما اهتممت به في رحلتي البحثية هو دراسة كيفية صناعة الشخصية وتطوير التعليم وعملية زرع القيم وصناعة الإنسان، ومن أجل هذا الغرض طفت من شمال البلاد إلى جنوبها، والتقيت كبار المسؤولين في وزارة التعليم والقائمين على وضع المناهج الدراسية والتدريس، وخلاصة ما توصلت إليه أن الإنسان هو عماد النهضة، وتطوير التعليم هو كل شيء، وبناء الإنسان هو النهضة الحقيقية؛ لأن الإنسان هو الذي يصنع هذه النهضة، وأقصد هنا ليس فقط تعلم العلوم التجريبية، بل زرع القيم، وفي ماليزيا لم تكن المدارس النظامية هي التي صنعت الشخصية وحدها، بل هي صناعة مجتمعية؛ بمعنى أن الأسرة والعائلة الكبيرة والشارع والمجتمع والبيئة بصفة عامة كلها تساهم في صناعة أطفال اليوم وشباب الغد وقادة المستقبل، وليست المناهج الدراسية وحدها.