تتزايد حاجة المرء المسلم للتزود بجرعات إيمانية وروحانية، بعد رمضان، لا سيما مع تسارع وتيرة الحياة المادية، وتزايد الضغوط الحياتية والمعيشية، فضلاً عن كثرة الملهيات والمشتتات.
ربما نحن بحاجة إلى صياغة أدوار جديدة للمسجد، وطرق مستحدثة، تواكب روح العصر، وتنتقل بأجواء بيوت الله إلى كل مسلم، في أي زمان ومكان، دون التخلي بالطبع عن إعمار بيوت الله، يقول تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة: 18).
وهناك بالفعل تجارب حية وواقعية وناجحة، في إيجاد قنوات للتواصل بين المسجد ورواده؛ ما يجعل المسلم على صلة ببيت الله «أون لاين»، وتفاعل متواصل عبر وسائل التواصل، وتطبيقات التكنولوجيا.
ولا شك أن دعاة القرن الـ21، أبدع منهم من أبدع في توظيف التطور التكنولوجي الهائل في خدمة الدعوة إلى الإسلام، فصرنا نرى مواقع إلكترونية للمساجد الكبرى، وبثاً مباشراً لدروس المسجد، وحلقات تحفيظ قرآنية عبر «زووم»، وجلسات استشارات دعوية وفقهية داخل غرف الدردشة.
ومن الأئمة والدعاة من يقدم خدمات متطورة انطلاقاً من بيت الله، من توفير المكتبة الإلكترونية، والمصحف الناطق، وبث خطب الجمعة، وإتاحة أرشيف الدروس والمحاضرات عبر الموقع الإلكتروني للمسجد، وبث مواد دعوية بأكثر من لغة لغير الناطقين بالعربية، مع إتاحة خدمات الفتاوى وغيره، الأمر الذي يرفع من كفاءة وفاعلية دور المسجد في الدعوة والتأثير.
بل إن البعض ذهب إلى إبداع طرق أكثر تفاعلاً وتواصلاً خارج المسجد، من خلال تطبيق جوال الجامع، الذي يزود المشترك بكل فعاليات المسجد، ويذكره بمواقيت الصلاة، والمناسبات الدينية، والأدعية المأثورة، كما يزوده برسائل دعوية ورقائق إيمانية، تشحذ همته «أون لاين».
ولا يمكن إغفال الدور الذي مارسته منصة «مسجد أون لاين» خلال تفشي جائحة كورونا، قبل سنوات في جمع الدعاة حول العالم في بث مباشر للتواصل مع جموع المسلمين عبر الفضاء الإلكتروني، ومجموعات «واتساب»، وقنوات «يوتيوب»، بشكل جعل منها مسجداً بديلاً يتجاوز الحظر التضييق أياً كان صوره في أي بلد، ومنصة تفاعلية دعوية تحمل الإسلام إلى جميع العالمين.
ويمكن القول: إن الفكرة كانت نبتة إبداع خارج المألوف، ساعدت لاحقاً على إنشاء 100 ألف مسجد إلكتروني على مستوى العالم، وفق مؤسسي المنصة، الذين يؤكدون عدم تعارض الفكرة مع الشرع الإسلامي، كون المنصة لا تدعو لإقامة أي صلاة عن بُعد، بل تحث المتلقي على الارتباط ببيت الله، والتواصل معه، وحضور فعالياته، والنهل من دروسه، والاستفادة من شيوخه وأئمته.
ربما مثلاً، نقل أجواء الاعتكاف في بث مباشر عبر العالم الافتراضي، يحفز آخرين على الانضمام للمعتكفين، وقد يكون بث تلاوة الأذكار والأدعية المأثورة من السُّنة النبوية فرصة أمام الآخرين للاقتداء بذلك، وقد تكون المحاضرات الفقهية منهلاً لتعليم كل ذي حاجة، وقد تكون الخواطر والرقائق طريقاً لهداية آخرين.
في هذا الصدد، لا يمكن حصر الآثار الإيجابية والنافعة لقناة القرآن الكريم التي تبث من الحرم المكي الشريف بمكة المكرمة، وتنقل أجواء العمرة والحج، وتزيد من لهفة القلوب إلى الطواف ببيت الله، كذلك قناة السُّنة النبوية التي تبث من الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، وتنقل عطر الحبيب إلى المشاهدين في جميع أرجاء المعمورة.
ومن المؤكد أن نقل أجواء الصلاة في المسجد الأقصى، يغرس لدى أبنائنا وأحفادنا الشوق إلى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحيي جذوة الجهاد في النفوس لتحرير «الأقصى» من أيدي الصهاينة الغاصبين.
إن الحاجة باتت ماسة في غزو الفضاء الإلكتروني، إن صح التعبير، وتحويل المواقع والمنتديات والتطبيقات الحديثة، وكل ما هو حديث ومتاح شرعاً وقانوناً، إلى سفير للإسلام، ومنبر دعوي، يبث النافع والطيب، ويغرس الخير والفضيلة.
لنُعِدْ إلى المسجد دوره وحيويته وفعاليته، ولننتقل بأجوائه وإيمانياته إلى كل هاتف وتطبيق، لنربط بين العلماء والفقهاء في مشارق الأرض ومغاربها، وبين المسلمين في كل مكان.
ليكن جهادنا الإلكتروني غاية وساحة لنشر وتعميم تجربة «المسجد أون لاين»، وأرشفة إنتاج دعاتنا وأئمتنا، وربط الناس ببيوت الله، دون تخل بالتأكيد عن المسجد الحقيقي، بل إن الأمر أشبه بقنطرة لوصل من انقطع، وتعزيز صلة من وصل، وإعادة إحياء دور المساجد كمنارة إشعاع إيماني وروحي، ومركز علمي وفقهي، ومحضن تربوي وثقافي، ومنهل خيري واقتصادي، وملتقى اجتماعي وسياسي.
إن من واجبنا أن نستحضر للواقع معنى «الجامع» بشموليته، لا لاستقبال المصلين فقط؛ لأداء الفرائض الخمس، بل للنهوض إيمانياً وعقائدياً وفكرياً ومجتمعياً، وأن نحقق في قلوبنا ومجتمعاتنا وبلداننا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ورجل قلبه معلق بالمساجد».