اختص الإسلام المساجد بمكانة عظيمة، وقيمة كبيرة في حياة الناس، فلم يخصصها فقط للصلاة، بل كانت إضافة إلى كونها دار عبادة، مركز حكم، ومجمعاً علمياً، وساحة اجتماعية، وهيئة إصلاحية.
ومن الأهمية بمكان إعادة الاعتبار للمسجد، وتحقيق معنى «الجامع» فيه، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، كما كان على مدار التاريخ الإسلامي، منذ عهد النبوة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم خير نموذج لذلك.
ولا شك أن أدوار ومهام المسجد في الإسلام كثيرة ومتعددة، وقد تطورت على مدار التاريخ، ومنها ما تقلص، أو اندثر، لكن بيوت الله ظلت عامرة جامعة، وقبلة للناس أجمعين، ومنارة للعلم والخير والفضيلة، وداراً للتقوى والعبادة، ومنبعاً للتكافل والتعاون، ومن هذه الأدوار:
أولاً: المسجد دار عبارة؛ (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن: 18)، فهي بيوت الله وأحب الأماكن إليه، ولهذا أمر الله بإقامتها وعمارتها وشهد لأهلها بالإيمان والهداية؛ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) النور).
ثانياً: دار حكم؛ فمن المسجد أدار النبي صلى الله عليه وسلم شؤون المسلمين، ومنه أرسل الجيوش، وفيه استقبل الوفود، وتشاور مع أصحابه في أمور دينهم ودنياهم، لذلك توعد الله تعالى من منع الناس من تفعيل دور المسجد في حياتهم، فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة: 114).
ثالثاً: دار عدل وقضاء؛ حيث كان المسجد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلّم وجهة للمتنازعين والمتخاصمين، وتطور الأمر لاحقاً، فسميت بعض الساحات في المساجد باسم القضاة الذي يجلسون للنظر في شكاوى الناس، كما هي حال الشباك الكمالي في المسجد الأموي، نسبة إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري.
رابعاً: منبر دعوة؛ فمن المسجد الحرام انطلقت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة، ومنه إلى العالمين جميعاً، فالمساجد بيوت الله، ومنابر الدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، عن عبدالله بن مسعود، قال: قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «نضَّر الله امرأ سمع منا شيئاً فبلَّغه كما سمع، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع».
خامساً: جامعة علمية؛ فقد كان المسجد مدرسة فقهية، وملتقى فكرياً، وكانت حلقات العلم في المساجد نقطة رئيسة في تعليم المسلمين أمور دينهم، وتخريج الدعاة والفقهاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (رواه البخاري)؛ لذلك سبقت المساجد المدارس والجامعات والمعاهد، ومن أبرز تلك المساجد جامع عمرو بن العاص، والجامع الأزهر بالقاهرة، والجامع الأموي في دمشق، وجامع المنصور ببغداد، وجامع القرويين في المغرب.
سادساً: دار إيواء للضعفاء والمساكين والفقراء والمحتاجين، فقد أنزل الله في «أهل الصفة» قوله: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة: 273)، فكان المسجد متكفلاً بهم؛ «فإِذَا أَتَى النبيَّ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا» (أخرجه البخاري).
سابعاً: بيت مال المسلمين، حيث كانت تقام قبة بيت المال في المساجد، وفي هذه القبة كان الخلفاء يحفظون الثروة النقدية العامة التي كانت حصيلة الزكاة التي يدفعها المسلمون عن أموالهم وخراج أراضيهم والفَيء الذي يكسبونه في حروبهم، ومن هنا جاءت ضرورة إغلاق المسجد بعد صلاة العشاء.
ثامناً: مؤتمر جامع، حيث يجمع ويوحّد كلمة المسلمين، إذ يجتمعون في اليوم 5 مرات، ويجتمعون أسبوعياً في صلاة الجمعة، كما يجتمعون في العام مرتين كما في صلاة العيدين، لذلك كانت المساجد بمثابة مؤتمر حاشد يقوي العلاقات، ويشحذ الهمم، ويفتح آفاق التعارف والتعاون بين أفراد المجتمع.
تاسعاً: دار طب، فقد اتخذ المسجد كمكان لعلاج المرضى، وكان الأطباء يجلسون عند أبواب الجوامع لاستقبال المرضي وتقديم النصيحة لهم، ويشهد التاريخ للطبيب القيرواني أحمد بن إبراهيم الجزار الذي كان يجلس عند باب الجامع ومعه بعض الأدوية، وجامع أحمد بن طولون الذي احتضن عيادات مختلفة أهمها الباطنة والعيون.
عاشراً: دار أفراح للمسلمين، تعقد فيها عقود الزواج؛ وقد استدل جمهور العلماء لصحة قولهم باستحباب عقد النكاح في المسجد بما رواه الشيخان في صحيحيهما، عن سهل بن سعد الساعدي قال: أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما لي في النساء من حاجة»، فقال رجل: زوجنيها، قال: «أعطها ثوباً»، قال: لا أجد ، قال: «أعطها ولو خاتماً من حديد»، فاعتل له، فقال: «ما معك من القرآن»، قال: كذا وكذا، قال: «فقد زوجتكها بما معك من القرآن».