عرضنا في الحلقة قبل الماضية معاناة فتاة من والديها بدءاً من خلافاتهما الزوجية، ومروراً بمأساة طلاقهما، وختاماً بتدمير ما تبقى منها بانتقام كل منهما من طليقه، بعد الطلاق (https://mugtama.com/20/319363/)، وتناولنا في الحلقة الماضية كيف أصل إلى قناعة شرعية بحتمية الطلاق؟ (https://mugtama.com/20/321727/)، كما وعدتكم، أيها القراء الكرام، بأنني سأتناول بمشيئة الله كيف أتعبد إلى الله في الطلاق؟
أوضحنا في الحلقة السابقة أن هناك ضوابط شرعية تؤدي إلى حتمية الطلاق، مثل:
– الصد عن أداء الشعائر.
– التعرض للوقوع في الكبائر.
– أذى نفسي أو بدني فوق الطاقة.
مع تأكيدنا أنه يجب المقارنة المتأنية بين استمرار الحياة الزوجية والطلاق لكل جوانب الحياة، ليس فقط على الزوجين، ولكن أيضاً على الأولاد، وبينا أن قرار الطلاق يمر بمراحل، وحتى لو تمت القناعة الكاملة بحتمية الطلاق، أوصينا بأن يتم الاتفاق على إرجاء الطلاق الشرعي لمدة 3 – 6 أشهر، ويتم خلال هذه الفترة الانفصال الكامل بين الزوجين والتعامل كأنهما مطلقان؛ بحيث يغادر الزوج البيت، وتدير الزوجة حياتها كأنها مطلقة.
لو تمت القناعة الكاملة بحتمية الطلاق يتم الاتفاق على إرجاء الطلاق الشرعي لمدة 3 – 6 أشهر
والهدف من ذلك أن يعيش الزوجان حياتهما كمطلقين! ويراجع كل منهما نفسه، ويعيد تقييم نفسه وزوجه؟ فقد يرى في بُعده مزايا لم تكن واضحة، أو يرى مصاعب أكثر من مصاعبه معه، ويقرر العودة، أو يقرران الاستمرار في قرار الطلاق.
نتائج فترة الانفصال
أولاً: اتفاق الزوجين على العودة:
1- يسجدان لله شكراً على تغلبهما على أثرة النفس ونزغ الشيطان.
2- تحديد الأسباب التي أدت بهما إلى الوصول إلى أعتاب الطلاق.
3- وضع برنامج عملي لمعالجة هذه الأسباب، ولا حرج من الاستعانة بعد الله بأحد المتخصصين في ذلك.
4- تذكُّر المعاناة التي مرَّا بها؛ حتى يحافظا على حياتهما معاً- وفضل الله عليهما أن وفقهما للعودة مرة أخرى لمحضن حياتهما الزوجية.
ثانياً: قرر أحدهما العودة وقد أصر الآخر على الطلاق:
على الزوج الذي قرر العودة للحياة الزوجية أن يراجع نفسه، ويحدد الأسباب التي جعلت زوجه يصر على الطلاق، فإن لم تكن تتعلق بالشرع ويمكنه أن يتوافق مع زوجه حول نقاط الخلاف بقناعة -وليس فقط لمجرد استرضاء زوجه ثم العودة مرة أخرى لممارسة أسباب الخلافات- فيحتسب عند الله بذله، ويحاول استرضاء زوجه بنزع أسباب الخلاف من جانبه، فإن وفقه الله في ذلك فلله الحمد، وتطبيق الخطوات الثلاث الأولى من الحالة أولاً.
فإن أصر الزوج على الطلاق يتم تطبيق الحالة ثالثاً.
على الزوج الذي قرر العودة للحياة الزوجية مراجعة نفسه ويحدد الأسباب التي جعلته يصر على الطلاق
ثالثاً: اتفاق الزوجين على الطلاق:
يرجع الزوج إلى البيت ويطلق زوجته طلاقاً شرعياً.
ثبت عن ابن عمر أنَّه طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وهي حَائِضٌ، علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسَأَلَ عُمَرُ بن الخَطَّابِ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن ذلكَ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أمْسَكَ بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» (رواه عبدالله بن عمر، صحيح البخاري، 5251).
ويستدل من هذا الحديث أن المطلقة طلاقاً رجعياً تبقى في بيتها مع زوجها؛ يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) (الطلاق).
كيف يتصرف الزوجان في فترة العدة؟
لا حرج على أي منهما أن يتزين لزوجه؛ عسى أن يستجيب أي منهما لزوجه، ويعودا زوجين دون عقد أو مهر.
ونؤكد أنه يجب على كل من الزوجين أن يتعامل مع زوجه في فترة العدة بالمعروف؛ تعبداً لله، وأن يتقي الله في زوجه حتى ينعم الله عليه بالفرج والرزق؛ (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق).
الحرص على الإحسان إلى الزوج بفترة العدة ومراعاة حالته النفسية قد يُحدث تغيراً في قلب الزوج
إن الحرص على الإحسان إلى الزوج في فترة العدة تعبداً لله ومراعاة لحالته النفسية قد يُحدث تغيراً في قلب الزوج؛ فيقرر العودة؛ (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء: 53)، ومن المهم أن يبذل كل زوج ما في وسعه ويحرص على استرضاء زوجه قبل وقوع الطلاق، وأن يستسمحه، حيث إنه من المؤكد أنه قد تجاوز في حقه.
إن العلاقات الزوجية من أكثر العلاقات تفاعلاً وتشابكاً، ومهما حرص الزوج فإنه قد يتجاوز في حق زوجه؛ لذا دائماً نوصي بسرعة التغافر والتسامح والعفو والإحسان بين الزوجين، وحتى لا يوافي الأجل الزوج وهو ظالم زوجه، فيقتص منه يوم القيامة، أما وقد وقع الطلاق فيجب على الزوج أن يسترضي زوجه ويزيد بالفضل على حقه، حتى لا يحاجيه يوم القيامة أمام الله طالباً القصاص ولو من نظرة ازدراء.
ومن واقع ما عرض علينا من استشارات نستطيع أن نؤكد أن تصرفات الزوج في مرحلة الطلاق وما يليها قد تدفع زوجه إلى أن يفكر في العودة أو الإصرار على الطلاق.
فإن مرت فترة العدة دون رجعة، فلله الحكمة البالغة وقد بانت منه.
الحقوق المالية للمطلقة طلقة رجعية
– مؤخر صداقها إن لم يكن دفعه كاملاً.
– نفقة متعة تُقدَّر بيُسر الزوج ومدة الحياة الزوجية.
– النفقة لمدة ثلاثة أشهر من مسكن ومأكل.
للأسف، بعض الأزواج يعضل زوجته حتى تتنازل له عن بعض من حقوقها المادية، ولا يتذكر أن الظلم ظلمات يوم القيامة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (النساء: 19)، كذلك من الظلم أن يعامل الزوج زوجته بقسوة حتى يجبرها على أن تخلعه متنازلة عن حقوقها المالية وترد له صداقها، أو بعض ما قد أهداها.
الحقوق المالية للمطلقة طلقة بائنة
اختلف الفقهاء في حقوق المطلقة طلقة بائنة، وأن من منطلق العفو والإحسان أن تكرم ابتغاء عفو الله.
كذلك إن كانت المطلقة في يُسر وتعلم أن مطلقها في عُسر فقد حثها الشارع الحكيم جل شأنه على العفو؛ (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة: 237)، كما حض الزوجين على أن يتعاملا بالفضل والعفو لما كان بينهما من عشرة.
آداب الطلاق (الحقوق والواجبات المعنوية للمطلق)
– المحافظة على أسرار الحياة الزوجية: لا يجوز شرعاً إفشاء الأسرار الزوجية، وكل ما ائتمن عليه الزوج زوجه ولا بيان سبب الطلاق، للأسف -إلا من رحم ربي- حتى يبرئ الزوج ساحته يشيطن من كان زوجه وكأنه كان ملاكاً!
– عدم ذكر مَنْ كان زوجي إلا بالخير أو الصمت، لقد حذرنا الله من الغيبة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12).
يُروى أن أحد الأزواج طلق زوجته وأعطاها حقوقها المالية كاملة، ولكنها بالغت في طلبها وقررت اللجوء للقاضي، فأعطاها فوق حقها لتسحب شكواها! وبرر ذلك بأن مروءته أبت أن تقف مَن أفضت إليه وأفضى إليها أمام القاضي مبررة طلبها كذباً!
الطلاق للزوجين وليس للأولاد فتظل علاقة الأب بأولاده مستمرة وهو المسؤول عن تكلفة حياتهم
الأولاد
إن الطلاق وقع بين الزوجين وليس للأولاد؛ لذا يجب أن تظل علاقة الأب بأولاده مستمرة، وهو المسؤول الوحيد عن تكلفة حياتهم كاملة طبقاً لقدراته مهما بلغ ثراء أمهم.
وإن كانت الأم هي التي تقوم بخدمة الأولاد فعلى الأب أن يتكفل بقيمة ذلك، ناهيك عن الإحسان المعنوي لها.
ومهما كان مقدار السوء الذي يرى الأب طليقته، أو الأم طليقها، فيجب ألا ينعكس ذلك على الأولاد، فمن أشد المدمرات على الأولاد أن يذكر والده أمه بسوء، أو تذكر والدته أباه بسوء، لا يجوز شرعاً أن يكون الأولاد ساحة مباحة لانتقام أي من الوالدين بالآخر.
تربية الأولاد
تربية الأولاد مسؤولية مشتركة على الوالدين، وليس معنى أن الأولاد في كفالة أحدهما -عادة الأم- أن تنتفي مسؤولية الآخر، حتى ولو تزوج وكان له أولاد من زواجه، فعليه أن يحرص على مراعاة وتربية أولاده من زواجه السابق أكثر، تعويضاً لهم عن فقدانهم المحضن التربوي الطبيعي بين والديهم.
ومن خلال ما عرض علينا من استشارات نستطيع أن نؤكد أن أداء أمانة ومسؤولية تربية الأولاد بعد الطلاق كثيراً ما تضيع، وهي أهم من الكفالة المادية التي قد يتكفل بها أهل الخير أن قصر عنها الوالد؛ لذا يجب حرص كلا الزوجين على التوافق والتكاتف معاً على كيفية تربية الأولاد ودور كل منهما في ذلك، وأن يتناسيا ما كان بينهما من حلافات حتى يستطيعا القيام بهذه الأمانة التي سيسألان عنها أمام الله تعالى.
إن توافق الوالدين على أداء أمانة تربية أولادهما وخوفهما عليهم كانت سبباً في كثير من الحالات لعودة الحياة الزوجية بين المطلقين؛ (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 40).