من هو المثقف؟
تهدي الكاتبة روايتها إلى روح المثقف والمترجم الكبير بشير السباعي. أعرف الرجل، وكان بيني وبينه في حياته نوع من التواصل يستوضح من خلاله بعض القضايا والمعلومات الأدبية، وكنت أكبر فيه هذا التوجه، مع اختلافي الفكري معه جذريًا، حيث يعتنق الفكر الشيوعي ويؤمن به، ولكنه قدم ترجمات لا بأس بها، ومن حق الكاتبة أن تخصه بإهداء روايتها، وإن كان الإهداء يوحي أن الشيوعيين وأشباههم يحتكرون صفة المثقف، أي إن غيرهم بمفهوم المخالفة ليس مثقفًا ولا تليق به هذه الصفة!
بداية الرعب
وتشكر الكاتبة شكرًا خاصًا الباحث ماركو الأمين. لا أعرفه، ولكن الصحف والمواقع التي أشارت إليه، تصفه أنه باحث بالشأن الكنسي، ويعمل خادمًا في كنيسة الأمير تادرس الشطبي بالمنيا، وأنه اتجه لحفظ التراث الكنسي بعد «فض رابعة»، ويتهم الإخوان المسلمين (وقد صاروا الرمز الكودي للإسلام): بإحراق مائة سنة تاريخ! ويصف لحظة تقلّد محمد مرسي الحكم بـ«بداية الرعب» بين المسيحيين في المنيا، الذين أرعبهم واقع أن يعيشوا في دولة تحكمها الجماعة (أي الإسلام) كما يدعي، ويزعم أن أسرته كانت ترتب للهجرة، لكنه تمسك بالبقاء في مدينته وبيته ومدرسته وكنيسته وبلده، ويقول: “بعد يناير 2011م كنت لأول مرة أشعر أنّها بلدي، فلم أهجرها لجماعات أو أغراب». (ترى من هم الأغراب؟ هل المسلمون أغراب يا ماركو؟). ينسج ماركو الأمين قصصًا وحكايات خيالية عن القتل والحرق والتدمير الذي قام به المسلمون أو الإخوان ضد طائفته، ويصلّب للمجازر البشعة التي جرت في رابعة وغيرها، ليشعر مع جماعته بالراحة والاطمئنان! (ينظر ما كتبته ماريان سعيد- الوطن، 11:58 ص | الأحد 18 أبريل 2021م).
من الطبيعي أنه يستحق الشكر من الكاتبة لأنها تسير معه في خط واحد، هو شيطنة الإسلام والمسلمين، والتعصب للطائفة التي تعيش فوق القانون والدستور!
باستثناء الجبرتي
وتشير الكاتبة في الصفحة الأخيرة من الرواية إلى بعض المراجع التي استعانت بها، ومعظمها يتبني وجهة النظر الطائفية باستثناء الجبرتي، وكان واضحًا أنها لم تسترشد بما كتبه الجبرتي عن جرائم الخائن يعقوب وأتباعه، لأن غايتها كانت تبرئته أو تمييع الموقف منه على الأقل، هناك مراجع علمية دقيقة تحمل آراء موضوعية تجاهلتها المؤلفة، وأظن ذلك جاء عن عمد، مثل كتاب: محمد جلال كشك “ودخلت الخيل الأزهر”، وكتاب: أحمد حسين الصاوي”المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة”، وكتاب: حسين مؤنس “دراسات في ثورة 1919″، وكتاب: محمد شفيق غربال “الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة 1801م”، وهناك كتاب مهم لأحمد حافظ عوض، وعنوانه: “نابليون بونابرت في مصر”، وقد أعادت مؤسسة هنداوي (كلمات) نشره على الشبكة الإلكترونية ويحمل رقم إيداع في سنة 2012م، وهو كتاب ضخم ويتعاطف صاحبه مع بعض الرؤى الغربية، ولكنه يرصد وقائع الحملة الفرنسية بموضوعية مقبولة إلى حد كبير، ولم يتوقف عند يعقوب طويلًا، وتوقف عند المواقف الطائفية. ومما كتبه في هذا السياق أن النصارى انتهزوا فرصة دخول الجيش الفرنسي إلى مصر، وأرادوا أن يخرجوا عن تقاليد البلاد وعاداتها وأن يحتقروا المسلمين أو يناوئوهم، فلما بلغت هذه الأخبار آذان القائد العام (الفرنسي) عنفهم، وأغلظ لهم القول، وأكرههم على مراعاة العادات القديمة وعدم الإخلال بها، ص 397
أحسن حالًا
كما يتحدث عن أحوالهم في تلك المرحلة فيقرر أنهم كانوا أحسن حالًا من مواطنيهم المسلمين؛ لأنهم كانوا آلات المماليك في تحصيل الضرائب، وكانوا كُتاب أيديهم والمباشرين لأعمالهم الحسابية، وأمورهم الداخلية، وكان في يدهم حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، ومنهم المعلم جرجس الجوهري، الذي وصفه الجبرتي أنه ،« نافذ الكلمة موفور الحرية” ويكشف المؤلف أن ظلم المماليك كان في الحقيقة واقعًا في الأكثر على الفلاحين المسلمين، ولم يكن الآخرون في ذلك الوقت ممن يشتغلون بحراثة الأرض وزرعها، وكان في دهائهم وحسن حياتهم وصفاتهم خير واسطة للتخلص من المظالم والتقرب من الحكام، بما لا يتيسر في كثير من الأحوال لمواطنيهم المسلمين، ص 205
أحاديث الثوار
في الغلاف الخلفي للرواية اقتباس حول الثورة الفرنسية ودمويتها من خلال أحاديث الثوار في حانات باريس عن انتصاراتهم، وأحلامهم بتعليق الأرستقراط على أعمدة النور، وأن كل شيء سيصير بخير، وكأن الاقتباس يوحي أن الشيء نفسه يمكن أن يحدث في مصر الإسلامية!
وبالإضافة إلى هذا الاقتباس صورة المؤلفة الشخصية بشعرها المنسدل على كتفيها وهيئتها المتفائلة المتفاخرة، مع تعريف بها وذكر لمؤلفاتها، وإشارة لترجمة بعض كتبها إلى اللغات الأجنبية.
المكان
يتعدد المكان ويتنوع، وتتسع رقعته بين مصر وفرنسا، وبينهما إسطنبول وجزر البحر المتوسط وروسيا، وهناك منازل ومدن وقرى وأحياء وميادين ودور عبادة وجبهات قتال، تتحرك فيها شخصيات الرواية من خلال حياتهم اليومية أو وظائفهم وإقامتهم وسلوكياتهم. وتعطي الأمكنة دلالات على الفكر والتصور والاتجاه، ويبدو المكان في الرواية بصفة عامة منطلقًا للتعبير عن الهوية الطائفية التي ترى الآخر المسلم غريبًا وظالمًا وفي أحسن الأحوال ضيفًا ثقيلًا.
وتلوح من حين لآخر عبر المكان فكرة “لاهوت التحرير” التي تبناها رجال الكنيسة في أميركا اللاتينية من خلال تجميع أفراد الطائفة الخونة الذين خرجوا مع الحملة الدموية الفرنسية لإقامة القدّاسات والصلاة في الكنائس، والتفكير في مستقبل الطائفة والأغراب!
وفي المكان تحظى (الكنائس) بحضور لافت، ولا أثر يذكر للمساجد مع أن البيئة الحاضنة للأحداث تتسع لكثير من المساجد ومعطياتها بالنسبة للسكان جميعًا..
يبدأ النص بالإشارة إلى معاصر الزيت التي يملكها المعلم يعقوب، بحارة النصارى حيث بيته الفخم، فتكشف مستواه الاجتماعي وثراءه المالي من ناحية، وتوظيف المكان من ناحية أخرى للإشارة إلى عزلة النصارى، وهمجية المسلمين الثائرين الذين يهجمون على حارتهم، وحارة النصارى أو دور النصارى تعريف بالمكان في السياق العام مثل حارة اليهود، فالأقلية عادة تتجمع في مكان واحد بحكم حاجة أهلها إلى التقارب الاجتماعي الذي تفرضه العقيدة، وليس عزلًا عنصريًا أو طائفيًا كما يتبدى في السياق الروائي، وأفراد الطائفة كما يشاهد المجتمع يعملون في إطار عام، يبيعون ويشترون ويصنعون ويعملون مع الأكثرية الساحقة دون غضاضة أو كراهية، بل إن هناك في الأكثرية من يفضل التعامل مع الأقلية لأنهم يلتزمون في كلامهم ومواعيدهم لأن نظراءهم في الأكثرية غير ملتزمين، وينتمون اسميًا لعقيدتهم ولا يطبقون قيمهم في السلوك الاجتماعي، وقيم الطرفين متقاربة على كل حال.
فحول الجاموس
معاصر الزيوت تمثل المكان الذي يتم توظيفه لأغراض عسكرية. مثلًا يستخدم يعقوب فحول الجاموس في معاصره لتحول بين المسلمين في زعمه وبين عسكر الفرنسيين، والهجوم على النصارى الذين يتعرضون وفقًا للرواية إلى مذابح إسلامية ” وهكذا نجا نصارى الأزبكية من مذبحة مؤكدة بفضل تلك الطريقة التي لم تكن تخطر على بال أحد سوى يعقوب” (الرواية، ص11).
الصعيد
وتشير الرواية إلى أماكن جغرافية في مصر عاشت فيها بعض الشخصيات مثل إخميم وملوي ومدن صعيدية أخرى مثل فرشوط بوصفها الوطن الذي تدافع عنه الطائفة التي نشأ فيها فضل – شخصية روائية نصرانية أساسية – وفرشوط مدينة السكر والتمر والسواقي والطواحين وآلات الحرث والأبقار والثيران والقوافل المحملة بالعبيد والعاج القادمة من مملكة سنار، وتجارة درب الجلابة، وترتبط بها الشخصية ارتباطًا طائفيًا، ولا تغادرها إلا لتركب البحر من أجل التجارة أو إلى دول أوروبا، ثم إنه يحزن لفراقها (الرواية، ص72)، والتركيز على ذكر مدن الصعيد على لسان الشخصيات يوحي أن القوم يعدونه وطنًا خاصًا بالطائفة وحلمًا للكيان الذي يمكن أن ينشأ في المستقبل وفقا لخيال بعضهم!
تاجر الرقيق
توظيف المكان يتم أيضا لهجاء العرب وبيان قسوتهم وغلظتهم، صقلية مثلًا تصورها الرواية مركزًا لتجارة العبيد. يقف التاجر العربي الوكيل لأسواق العثمانيين يرتدي عباءته الخضراء المقصبة بالذهب فوق جلباب أبيض أطرافه محاطة بكورنيش من اللون الأصفر، على رأسه عمامة بيضاء فوقها عقال، يتفحص الجارية العارية (البضاعة) ويضع إصبعين من يده في فمها، ويضغط على أماكن حساسة في جسدها وهي واجمة مستسلمة (الرواية، ص 77)، وكأنّ العرب والمسلمين وحدهم هم الذين يتاجرون بالعبيد وينتهكون كرامة البشرية، بينما الغرب المتحضر في ذلك الوقت وقبله وبعده لا يتاجر في الشعوب المستضعفة، ولا ينقل أبناء إفريقيا وغيرها مقيدين بالسلاسل مثل الحيوانات في سفن قذرة ليعمروا الأراضي التي أبادوا أهلها واستولوا عليها في أمريكا وغيرها، ولعل الكاتبة اطلعت على رواية “جذور” أو شاهدت المسلسل المأخوذ عنها (1976م)، وهي للكاتب الأمريكي من أصل إفريقي أليكس هيلي!
إشادة بالغرب
المفارقة أن المكان هنا موظف بعناية للنيل من صورة العربي، أو المسلم بصفة عامة، وفي الوقت نفسه يتم توظيفه لبيان تحضر الغرب المسيحي فعندما ذهب فضل- الشخصية الأساسية في الرواية- إلى مرسيليا ينوي أن يشتري المظلات التي تحمي من المطر مثل أهلها، ولا ينسى أن يشيد بطرقها وشوارعها العريضة، فهي أفضل من طرقنا، كما أنها مبلطة بالحجر الأبيض، وبيوتها من الخارج بيضاء ذات أسقف مائلة، وشبابيكهم (نوافذهم) من الزجاج ولا أثر للتراب على المباني، ولعل هذا يعود إلى شدة نظافتهم وعنايتهم أو وفرة المطر وجمال الطبيعة (الرواية، ص 86-87).
لا بأس من الإشادة بنظام المدن ونظافتها وجمالها، ونقل ذلك إلى البلاد التي تفتقد التنسيق والتنظيم مثل بلادنا، ولعل الحس الديني كان من وراء الإشارة إلى الوجه الآخر الخفي للمدن الفرنسية الذي لا يمكن تخيله “وأنت في القاهرة”. تسمع عن عظمة الجمهورية، فقد امتلأت المدن بالمتسولين والمتشردين بكل ضروب النفوس العتيدة الكريهة القذرة المتوحشة الحثالة، أما في الطبقات العليا فكان انتشار القمار والفوضى الجنسية، هذا السلوك الذي كنت متصورا أن سببه الإلحاد الذي تفشى في هذه البلاد. (الرواية، ص 112).
لاهوت التحرير
بيد أن توظيف المكان ليكون منطلقًا لما يسمى “لاهوت التحرير”، يثير الريبة، والمكان دائمًا هو الكنيسة التي يعمرها رجال الدين عادة، ومع أن الرواية تقدم الكنائس في فرنسا خاوية على عروشها ولا يزورها إلا أعداد قليلة من المصلين بسبب الثورة الفرنسية (الرواية، ص 108)، فإنها- أي الكنائس- تمثل هدفا للثوار الذين يرفضونها ويقتحمونها ويذبحون رجال الإكليروس ويشقون بطونهم كفرًا بكل شيء (الرواية، 165-166)، وترى شخصية فضل أن المسيح جاء مغيرًا متمردًا على الأوضاع السائدة، وصبّ كثيرًا من الويلات على قادة اليهود، وأمسك بالسوط وهو الرحيم الوديع ليطرد الباعة ويغير الوضع الخاطئ. ويجب علينا أن نمسك بالسوط لنبطش بالطغاة. “أنا في حيرة، لكني متأكد أنه على الأقل إن لم نمسك السوط الحقيقي فيجب ألا نسكت على الظلم، لقد دفع المسيح حياته على الصليب فداءً لنا” (الرواية، ص 194) – لا يؤمن المسلمون بقتل المسيح- ولكن فضل يشير إلى أن باريس أو كنائس باريس بالأحرى تبارك تمرده مع تمرد يعقوب، وتكتب ميطانية الإنسانية! (الرواية، ص 195). وفي رحلته الطويلة يشعر الأب النصراني الذي استوطن باريس والكنيسة أن الله اختاره لدور أهم من تجميع شعب القبط وإقامة القداس لهم في فرنسا، فهو يكتب ويؤلف ويجد إجابة السؤال الذي دفعه لأن يتبع (يعقوب) ويخرج معه إلى بلاد الغزاة: “هل لنا نحن رجال الإكليروس دور أكثر إيجابية غير اللجوء إلى العظات في القداس الإلهي؟ دور يسعى إلى مواجهة البؤس والظلم الهائل بدلًا من تحمّلهما، أملًا في الخلاص؟” ويقرر: كنت أمينًا على القلب الذي أعطاه لي لوسيان، خفت أن يقع في أيدي أعداء الحرية، أخفيته في مكان سري، دعيت الله (كذا! والصواب: دعوت)، أن يجده فقط من يدافع عن حق المقهورين، ويؤمن بالمساواة، استودعته المسيح قائلًا: حيث روح الرب هناك حرية”(الرواية، 278- 279)،
جذور الفكرة
فكرة لاهوت التحرير المأخوذة من اللاهوت المسيحي والتحليلات الاجتماعية الاقتصادية الماركسية، والساعية إلى رفع راية الفقراء، وتحرير الشعوب سياسيًا، تبناها وقادها رجال الدين بأمريكا اللاتينية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أبرزهم الدعاة الإنجيليون: رينيه باديلا من الإكوادور، وصموئيل إسكوبار من البيرو، وأورلاندو كوستاس من بورتوريكو، وغيرهم، وشددوا على التبشير بالإنجيل، وعلى المسؤولية الاجتماعية في آن واحد، وشاعت عبارة: «الخيار التفضيلي للفقراء» (ويكيبديا- لاهوت التحرير).
اللاهوت والطائفة
بيد أن لاهوت التحرير في الرواية لا ينطبق على الطائفة في مصر، فهم أغنياء في مجملهم، والخائن يعقوب كان من أبرز أغنياء مصر، وله سلطة قوية بوصفه جابي أموال الدولة، والسؤال هو: تحرير من ممن؟ إذا كان الغازي الفرنسي يحتقر الشعب المصري كله، وينظر إلى الطائفة وما تؤمن به من مذهب أصولي نظرة دونية، فهل التحرير يكون من هذا المحتل الغاصب، أو من العثمانيين والمماليك الذين انصب ظلمهم على الفلاحين المسلمين، أو تحرير النصارى من الأكثرية الحاضنة للأقلية؟
لا ريب أن الفكر الماركسي في مصر انحرف انحرافًا بشعًا حين وقف وراء الأقليات وأيّد انفصالها عن أوطانها الإسلامية، وقام بمحاربة الإسلام حربًا ضارية، ووقف مع الاحتلال الصهيوني لفلسطين وأدان الجيوش العربية التي حاولت الدفاع عنها عام 48، وأيد انفصال جنوب السودان، والأكراد في العراق، ورفض وحدة جنوب اليمن مع شماله، وظاهر انشقاق البوليساريو، ودعم دعوة البربر لمناوأة العرب في الجزائر، ونفخ فيما يسمى الهوية النوبية جنوب مصر..
هل وجهة النظر في الرواية تدعو النصارى إلى الاستقلال عن مصر، وتدعم المخطط الأمريكي الصهيوني لتمزيق أم الدنيا، أو تسعى لتتخلى الأكثرية المسلمة عن دينها لتكون موطنًا صالحًا؟ من الواضح عبر الأحداث والشخصيات والأفكار أنها تطلب الغايتين!