لا أتصور أن أحدًا من الناس -في أصل خلقه، ومكنون نفسه– جبل على أن يرضى، أو يستعذب الذلّ يجرِّعه إياه أي أحدٍ، أيا كان، اللهم إلا تلك الحالات المرضية الشّاذّة التي لا حكم لها ولا تخرق القاعدة.
لقد خلق الناس أحرارًا، ولو ترك المرء على سجيته دون أي شكل من أشكال التطبيع الاجتماعي المتوارث فإنه لن يقبل بحال موقفًا يُسام فيه ذلاًّ وخسفًا، إذ تعوّدت نفسه أنفة العزّة، واستطابت حلاوتها، فلا تعدل بها بديلاً مهما كانت عواقب ذلك الرفض على نفسه.
إن الرضا بالذل في تقديري هو محض تابع من توابع التربية التي ينشأ عليها الفرد، وقد قرأت قبل سنوات لفضيلة الشيخ عبدالمنعم النمر -وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأسبق بمصر والعالِم المعروف-وهو يحكى طرفًا من تجربته في الهند إبان فترة عمله بها أستاذًا بإحدى جامعاتها، أنّ أجيرًا من طائفة المنبوذين هناك أتى لإنجاز مهمة ببيته، وأراد أن يشرب؛ فلمّا أعطاه كأسًا من الماء رفض أن يتناوله منه بيده، وأصرّ أن يشرب من الصنبور مباشرةً أو أن يدلق الشيخ الماء بفمه دلقًا دون لمس الكأس، لأنه ربى وأُشْرِب الإحساس بالدونية والحقارة، وأنه شيء نجس يفسد الأشياء التي تخص الأطهار في المجتمع إن مسّها، وعبثًا حاول الشيخ –رحمه الله– إقناعه بالشرب من الكأس لكنه رفض بما يشير إلى عمق تمكن الشعور بالذلّة والنجاسة المفسدة للأشياء من نفس ذلك الإنسان المكرم في أصل خلقته لأن هناك من استعبده، وطبعه على ذلك الذلّ طبعًا؛ فألفت نفسه ذلك الشعور بالدونية والحقارة، فلم يعد يرى نفسه في غير هذا الموضع، وصار راضيًا كل الرضا بما هو فيه مقتنعًا أن هذا قَدَره المحتوم، ومصيره الذي لا فكاك منه، وقَدْره في هذه الحياة بين الناس، ولن تصلح معه على هذا النحو وبمثل هذه التصورات كل محاولات إخراجه من هذه الحالة المشينة التي سجن نفسه فيها أو سجنه فيها مجتمعه الظالم إلا من رحم ربى.
هؤلاء الأذلاء المطبوعون على الذل، ديدنهم وقصاراهم أن يتسوّلوا من مذليهم شيئًا من تحسين ظروف عبوديتهم، إن شاء أعطى وإن شاء منع، ولا يمرّ بخاطرهم مرورًا عابرًا فكرة أن يتخلصوا من هذا الذل المضروب حولهم كسياج محكم، أو لا يتصورون منه فكاكًا أصلاً، كذلك الحمار الذي عوده صاحبه أن يربطه إلى وتد محدّد، فإن وجد رباطه وقد انفكّ يومًا فلن يبتعد عن وتده قيد أنملة، وسيبقى أسير شعور أو وهم خفي بأن قيده لم يزل يشدّه بقوة إلى ذلك الوتد العتيد. أو أن خطرًا داهمًا يجهله، أو أذى من صاحبه قد يلحقه إن ابتعد عن قيده، وإن كان حُلّ، فيا لله كم من البشر اليوم حالهم كحال هذا الحمار!!!
إن تمكّن الشعور بالذلة والمهانة يحول الإنسان إلى ما يشبه الآلة الصماء، ويعطل فيه معظم ما يصير به الإنسان إنساناً فلا ينتفع به بعد إلا بقدر ما ينتفع من البهائم في تيسير حياة السادة، وخدمة رفاهيتهم، وأنى لهؤلاء أن يتشوفوا لتطلعات الإنسان السوىّ في الاستمتاع بالحياة الكريمة، ومناصرة المبادئ الشريفة، والعيش لحاجات وغايات كبرى تتجاوز حاجات الجسد وضروراته.
ولأمر ما كان اختيار العرب دون سواهم من شعوب الأرض ليحملوا الرسالة الأخيرة الخالدة لينشروا أنوارها بين شعوب الأرض.
لقد كانت أغلب شعوب الأرض آنذاك ممن حظيت بقدر من الحضارة تحت وطأة نير الاستعباد الرهيب الذي ناء بكلله على مختلف الأمصار والأصقاع والمجتمعات، وبقيت جزيرة العرب في أغلبها سالمة من ظاهرة الاستعمار أو الاستحمار البغيضة لزهد المستكبرين الطامعين في نهب ثروات المستضعفين في تلك الأرض القاحلة الجرداء لحكمة اقتضتها مشيئة الله من قبل، فبقيت قبائل الجزيرة العربية أقرب إلى الفطرة -فلم تصبها جرثومة الذلّ القاتلة-إلا ما كان من دولتي المناذرة والغساسنة على أطراف الجزيرة.
وإن من أخطر وأفدح آثار ظاهرة الاستعمار أو الاستحمار على الأمم المستعمرة كما بصّرنا القرآن الكريم بجلاء هو استحمار تلك الأمم المستعبدة واستذلالها وطبعها بطابع الذلة والخنوع.
وقد أورد القرآن الكريم تلك الحقيقة على ذلك النحو القاطع المؤكّد: ﴿ إِنَّ ٱلۡمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرۡيَةً أَفۡسَدُوهَا وَجَعَلُوٓاْ أَعِزَّةَ أَهۡلِهَآ أَذِلَّةٗۚ ﴾ النمل: 34 واللطيف هنا أن ترد تلك الحقيقة منسوبة إلى امرأة عربية أريبة ذات تجارب ملهمة، حسنة السياسة، راجحة العقل، نقية الفطرة إجمالا، ألا وهى الملكة بلقيس ملكة سبأ، وما أعظمه من شرف تناله تلك المرأة على مر التاريخ أن يؤمّن الحق في كتاب خالد لا تبلى على الدهر جدته مع مرور الأيام والأزمان على ملاحظتها الذكية الدقيقة فيكون التعليق على المقولة الحكيمة مباشرة: ﴿ وَكَذَٰلِكَ يَفۡعَلُونَ ﴾ النمل: 34
إنه لمن طبائع الأشياء، وبدهيات العقول أن من يرضى بقيود الذلّ تكبّله لن يستطيع أن يحرّر سواه من أغلال ذله، وأنَّى له فإن من ألف أغلاله، ولم تعد تعافها نفسه، أو يؤذيه منظرها أو آلامها فإنه يكون على نحو ما قد وقر في نفسه أن هذا الذل وهذه الأغلال قدر ومقدور، أو إرث مأثور، أو ضرورة من ضرورات الحياة التي لا انفكاك عنها، ومن ثم فلا سبيل أمامه إلا التأقلم مع أوضاعه، والرضا بها، ونسيان أوجاعه أيًّا كانت.
ولله در المتنبي الحكيم إذ يلخص هذا المعنى بعبارته العبقرية:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيـــلام
لقد كان من غايات الرسالة الإسلامية الكبرى -ولم يزل– أن تحرر الإنسان بالتوحيد لله تعالى من كل صور الاستعباد لغير الله، ذلك الاستعباد الذي يفقد الإنسان إنسانيته ومعنى وجوده، ومن ثمّ كان اختيار من رُبِّى على الأنفة والعزة، ورفض أن يستقرّ معنى الذل في أعماقه، هو أول الطريق لتحرير البشرية على أيدي شعب ذاق طعم الحرية واستعذبه فعشقه حدّ الموت في سبيله، وعرف حقيقته، وقدّر قيمته أيما تقدير فتغنّى بذلك في أهازيجه وأشعاره.
كان ذلك المنهج التحرري في حاجة إلى إنسان يقدّر قدره، ويعي خطره، فينطلق به في الآفاق هاديًا ومبشرًا ومنقذًا وداعيًا إلى فهم قويم آمن به أعمق الإيمان.
بيد أن المرء يعجب أشد العجب إذا رأى من الناس من يرسفون في أغلال ذل مهين مقيت لا يكاد يبذل أحدهم وسعًا لينفك من براثنه فرارًا، بل تراه يستسلم لقيوده طائعًا خانعًا مختارًا، لا لشيء إلا أنه يخشى ذلاً آخر يتوهمه توهمًا كأنه يراه رأى عين، فهو أسير وهم، وهو يخاف وهمًا غيره، وكأنه رهين محبسين!!!!
قد يذل البعض لقيد الوظيفة التي يحصل منها على لقمة عيشه فترى ذله لها يشلّ حركته، ويغلّ كلمته ويقضى على معالم إنسانيته، ويسجنه بين جدران وهمية لحمتها وسداها المخاوف والوساوس، بما يعطّل دوره في الحياة إنسانًا مؤثرًا فاعلاً، إذ يملأ عليه جوانب نفسه شعور بالهلع مقضّ ممضّ أنه إن ترك تلك الوظيفة –باب رزقه-فسوف يسلمه ذلك إلى ذل الحاجة والعوز، وتكفُّف الناس؛ فيرى لخنوعه واستسلامه لمشاعر الذل والخور في نفسه أسبابًا وجيهة تأنس لها نفسه فيمضي ويوغل فينحدر وينحدر.
ولعمر الحق لو أيقن هؤلاء بأن الرزق من أمر الله تعالى، وأنه مما ضمنه الله لخلقه إذ برأهم وذرأهم فوق الأرض، وقد ضمن لكل حي أيا كان لونه أو جنسه أودينه ما يخاف عادة عليه أشد ما يكون الخوف: العمر والرزق أو سنوات بقائه على الأرض نفسًا حية، فضلاً عمّا يقيم الأود ويسدّ الخلة، إذ لا سبيل لأحد علي هذين الأمرين في دنياه، وإن خيل له وهمه غير ذلك ، ومصيره في الدنيا مثل غيره من الناس مرهون بكده وسعيه ليس إلا ﴿ وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ٣٩ وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ ٤٠ ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفيٰ ﴾ النجم: 39-41
وإنى لارى عبقرية التربية الإيمانية النبوية في قوله ﷺ، وهو الصادق المصدوق: (إنه قد ألقى في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها) فما وجه الخوف الهلوع إذن، ذلك الذي يقعد المرء عن رفض الذل، وقول الحق، ومواجهة الظلم والظالمين؟!
تالله؛ لو أيقن هؤلاء بهذا المعنى ما لبثوا في أغلال الذل المهين ساعة من نهار!!
ومن الناس من تستعبده وتستذله شهوة من شهوات النفس مما يتعلق بحاجات البدن من طعام أو شراب أو كساء أو إشباع جنسي، وهم من أشار إليهم النبي الكريم بوصف المقت والإهانة (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) وهى سلسلة متراكبة متقاربة أطرافها تضم أصنافًا غير قليلة من قطعان البشر، ولك أن تتأمل في تلك التعاسة التي مصدرها ما يظن فيه صاحبه أنه سبيله للسعادة، فلا يعبد الدينار -إشارة لكل أصناف المال-إلا من يظن أن المال مصدر سعادته فيكون حتفه وشقاؤه فيما أفنى عمره متعبدًا في محرابه، فما أشقاه بمعبوده، ومثله من استذلته أي صورة أخرى من صور الشهوات، وصنوف الأهواء يكون حتفه فيما استذله بدل أن يكون فيه سبب سعادته وراحة باله.
ولو نظر هؤلاء إلى حقيقة ما يستعبدهم لأدركوا تفاهته، وأنه لا يستحق ما يبذل فيه من عناء، وأن الأقلّين فيه كالمكثرين، وأن الحياة يمكن أن تمضى سعيدة رخية، وإن قل نصيب المرء من متاعها وشهواتها، وأن التقلّل من زخارفها ما استطاع المرء لذلك سبيلاً لهو من معيناته فيها على إسراع الخطى نحو سعادة الآخرة والعكس بالعكس، وأن الاعتدال والاتّزان في أمر التعامل مع تلك الشهوات هو الطريق المأمون لحياة سوية في الدنيا، ونجاة من العذاب في الآخرة، فلا يميل به هواه في تناولها نحو الإفراط أو التفريط ففي السبيلين انحراف عن الجادة وضياع.
وهكذا فإن غلبة مثل تلكم المشاعر والحقائق على نفس إنسان، وهو يتأمل في أمر الشهوات والملاذ والأهواء التي أتخمت بها الحياة من حولنا ابتلاء وفتنة، يجعل الإنسان أقدر على التزام الاعتدال والانصاف والانضباط مما يضعه على الصراط المستقيم، ويقيه شرور الانحراف المهلكة في الدنيا، الموبقة في الآخرة، وإن شعور المرء بتفاهة ما يفنى فيه الناس أعمارهم لهو مما يعيد إليه توازن نفسه، ويحفظ عليه تماسكها واتزانها وسويتها، ويهديه دومًا سواء الصراط.
ومن الناس من يسلم قياده لبشر يشحن عقله وقلبه -حيث شاء-بمزاعم واختلاقات ما أنزل الله بها من سلطان، وقد يكون ذلك المستعبد لغيره سلطانًا أو أميرًا أو شيخًا يتحكّم في مريدين ضعيفي التفكير، ويتوهم هؤلاء أن ثورتهم على هذا الذل قد يعقبها عقوبات تنالهم أو فوضى تظلهم؛ فيستسلمون لما هم فيه من أحابيل إبليس.
إن الذل آفة نفسية تدمر إنسانية الإنسان، وتقضى على قدرته على تحقيق معنى وجوده، وهو من تلبيس إبليس على الناس ليبقيهم في أغلال ذلهم بأوهام لا حقيقة لها ولا أصل، حيث لن يجد سجنًا يحبس فيه بنى البشر ليسلمهم في نهاية المطاف إلى مصيرهم المحتوم الذي توعد هم بقيادتهم إليه مثل سجن الذل.
وأيم الله؛ إن استنقاذ هؤلاء الأذلاء من تلك السجون، سجون الذل بكل أشكالها، ووضعهم على طريق الحرية، والكرامة لهو من أوجب واجبات المشتغلين بالدعوة والهداية وتربية الشعوب. وإنه لجهاد مجهد يستنفد الأعمار، ويستنهض همم الرجال، لكنه يستحق ما يبذل فيه على كل حال، فما أعظم أن تحرر أسيرًا من أسره، وتستعيده على جادة الأحرار إنسانًا سويًّا فاعلاً في مضمار الحياة على هدى وبصيرة.