المرأة أهم المستهدفات الرئيسة لشركات التسويق العالمية، حيث تشير الدراسات إلى أن النساء يقدن ما بين 70 – 80% من الإنفاق الاستهلاكي في العالم، وتسيطر على أكثر من 31.8 تريليون دولار من الإنفاق، وأنهن يتخذن غالبية قرارات الشراء المنزلية، وأمام هذا المعطى القوي، رُفع شعار «اتبع النساء» لتعرف مستقبل التسويق؛ لذا صبت الشركات جهدها على المرأة لتنمية رغبات الشراء والنزعة الاستهلاكية، وتحويلها للانشغال الكامل بالجسد، والاستهلاك من أجل الاستهلاك خضوعاً لمنطق الموضة المتغير.
ففي إطار الثقافة المعولمة، خضع مفهوم «الأنوثة» لمنطق السوق والربحية، ومن أجل تعظيم أرباح الشركات الكبرى، كانت المرأة العنوان الذي أرسلت إليه تلك الشركات جهودها، من خلال الموضة(1)، لتأكيد الانشغال بالجسد وملذاته ومتعه، ولم يقتصر منطق الموضة على الأزياء، ولكن تعداه إلى كل ما يتعلق بالمرأة من ملابس ومستحضرات للتجميل وأغذية صحية، وإكسسوارات وأثاث، وعمليات تجميل، ففي العام 2022م على سبيل المثال؛ حققت سوق مستحضرات التجميل مبيعات قدرت بـ430 مليار دولار؛ لذا كان فهم المرأة كقوة استهلاكية أمراً مهماً في دفع عجلة الاستهلاك إلى أقصاها، وخلق صرعات جنونية نحو الاستهلاك غير الضروري، والمُسَتنزف للاقتصاد والضار بالبيئة.
الموضة رفيقة الحداثة
المتأمل في الفكر العالمي الحديث، سيلحظ أن الموضة ترافقت مع الحداثة، فالثورة الصناعية عظمت الإنتاج، والقدرة على الوصول إلى الموارد الطبيعية واستخدامها في الإنتاج الصناعي الكثيف، وفرض ذلك ضرورة زيادة معدلات الاستهلاك، وأن يتحول الاستهلاك من إشباع الحاجات إلى الاستهلاك من أجل الاستهلاك، هذا المنطق فرض أن تُخلق الأسواق والحاجات أولاً قبل أن تُنتج السلع، ومع مرور الوقت أخذت المجتمعات تتحول ناحية الروح الاستهلاكية المفرطة، أما الموضة فكانت المحفز الرئيس نحو هذا التحول.
في المجتمع الذي تحتل فيه الاستهلاك القيمة الكبرى، فإن قيمة الشخص تأتي من خلال التزامه بالموضة، سواء في نوعية المنتجات التي يستهلكها أو كميتها، لتتحول المقولة التي تأسس عليه فكر التنوير: «أنا أفكر إذن أنا موجود» نحو مقولة: «أنا أستهلك إذن أنا موجود»!
هذا التحول القيمي تجاه الاستهلاك كان لا بد من تغذيته باستمرار التغير في الموضات، التي كانت تتغير كل عام مع تنوع الفصول، وأصبحت في العصر الرقمي تتغير بسرعة تلائم طبيعة الوسيط الرقمي.
ومع تسارع الموضة، فإن الكثير من الملابس والمنتجات لم تعرف طريقها إلى الاستخدام، لتتقادم موضتها، وأصبح مكانها المخلفات، ومع تسارع الموضة أصبحت مدة استخدام الملابس قصيرة للغاية، لينتقل إلى ملابس أخرى تبعاً للموضة الجديدة.
هذا السلوك الاستهلاكي المفرط كان له ثمنه الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، خاصة أن الأسواق لم تعد تلبي الطلب، ولكن باتت هي من يصنع الحاجة ثم تسعى لإشباعها، فتولدت النزعة الاستهلاكية التي فاقت الاستهلاك، ودفعت الغالبية لشراء ما لا يحتاجون إليه، وتكديس الخزائن بالملابس.
وقد أمسكت شركات الإنتاج بهذا الخيط وسعت لتغذيته من خلال الإنتاج الكثيف، متغاضية عن كثير من معايير الجودة، لتلائم الموضات الجديدة، والوصول إلى أكبر قدر من الأسواق، فانتشر غش العلامات التجارية، والبضائع الرديئة.
والحقيقة أن النزعة الاستهلاكية النهمة من سمات المجتمعات المعاصرة، والملابس هدف رئيس للتنفيس عن تلك النزعة، تؤكد الإحصاءات تضاعُف عدد الملابس المصنعة سنوياً على مدار العقدين الماضيين، كما أن الاستهلاك العالمي للأزياء زاد 400%، وأن تكلفة تغيير الموضة تحملتها حاويات النفايات، التي اكتظت بأطنان الملابس التي استغنت عنها الموضة وسحقتها بتسارعها، أما الشركات فلجأت إلى الملابس الرخيصة قليلة الجودة كنوع من الاستجابة السريعة مع ضغط الموضة، فلم يعد استهلاك الشخص للسلعة يرتبط بوظيفتها أو ما تحققه من إشباع، ولكن بات من العوامل المؤثرة في صناعة هوية الفرد، وتحقيق القبول الاجتماعي.
ولذلك تنامى رأس المال المتدفق في صناعة النسيج، ومن المتوقع أن يصل حجم السوق العالمي في صناعة الملابس حوالي 2.6 تريليون دولار عام 2025م، وهو ما يشكل أكثر من 2% من الناتج الإجمالي العالمي، وتشير تقارير إلى أن نمو إنتاج الأزياء واستهلاكها يسير على الطريق الصحيح لتدمير كوكب الأرض، فوفقاً لإحصاءات عام 2023م، فصناعة الملابس والنسيج ساهمت في انبعاثات الكربون العالمية بنسبة تقارب الـ5%.
وتشير الإحصاءات إلى أن تلك الرغبة المحمومة في اقتناء الملابس أنتجت 92 مليون طن من النفايات سنوياً، واستهلكت 79 تريليون لتر من المياه، وفقًا للأمم المتحدة، تمثل الموضة السريعة 20% من إجمالي النفايات المنتجة عالميًا، وأن تحلل قطعة واحدة من الملابس قد يستغرق 20 عاماً كاملة، وبالتالي أصبحت تلك الصحاري تؤثر سلباً على النظام البيئي.
نفس لا تشبع
«المزيد لا يكفي أبداً، والجديد مطلوب دائماً»، مقولة تلخص منطق الموضة، التي لها تأثير على صحة الإنسان النفسية والعقلية، وقد بحث علماء النفس العلاقة بين الموضة وسلوك الإنسان، وكان بعض هؤلاء يقدم استشارات نفسية لشركات التسويق لترسم إستراتيجيتها على أسس علمية، لكن القطاع الآخر كان يبحث عما يُحدثه الخضوع لمنطق الموضة على الصحة العقلية والنفسية للإنسان.
وهنا يحدثنا علم النفس عما أسماه «اضطراب الشراء القهري» (CBD)(2)، وهو خضوع الفرد لأفكار تدفعه للشراء القهري والتسوق والهوس بالشراء، ورغم أن الجمعية الأمريكية للطب النفسي لا تعتبر هذا الاضطراب مرضاً عقلياً، فإن علماء نفس آخرين ينظرون إليه كاضطراب إدماني، واضطراب في التحكم في الانفعالات، ونوع من الوسواس القهري، وهذه الأمور قادرة على إيجاد المتاعب الكبيرة، فالذين يعانون من هذا الاضطراب يشعرون برغبة عارمة في الشراء تصعب مقاومتها، وانشغال بالأشياء غير الضرورية، وقضاء الوقت في البحث عن السلع دون وجود حاجة إليها، ووجود حالة من الهوس بمتابعة الموضة، والدافع وراء ذلك الرغبة في التخلص من المشاعر السلبية.
وتشير أبحاث إلى أن النساء أكثر تأثراً باضطراب الشراء القهري، لكن المشكلة أن الهوس بالموضة أصبح جزءاً من الروتين اليومي لكثير من النساء، وعدم إشباعها يؤدي إلى نوع من التوتر والقلق وعدم الرضا عن الحياة؛ بل إن الشخص إذا لم يستطع أن يلبي الضغط النفسي في الشراء، فإنه مع أول انفراجه يلجأ إلى الشراء الانتقامي، والإسراف.
وفي الرؤية الإسلامية، تحذير من هذه الروح والسلوكيات الإسرافية، وتحذير من الخضوع لمنطقها، ففي الحديث الصحيح: «بيْنما رجلٌ يمشِي في حُلَّةٍ تُعجِبُهُ نفسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إذْ خسَفَ اللهُ بهِ الأرْضَ، فهو يتجلْجَلُ فيها إلى يومِ القيامَةِ».
وتحدث ابن الجوزي في كتابه «صيد الخاطر» عن شخصية «المنهوم»؛ أي المولع بشيء، و«الرَّغيبُ الذي يمتلئ بطنه ولا تنتهي نَفْسُه»، وهو المفرط في الرغبة والشهوة والملذات، فيقول: «أشد الناس جهلًا منهوم باللذات، فالمنهوم كلما عبَّ من لذة؛ طلب أختها، وقد عرف جناية الأولى وخيانتها -وهذا مرض العقل، وداء الطبع- فلا يزال هذا كذلك إلى أن يُختطف بالموت، فيُلقى على بساط ندم لا يستدرك، إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل».
______________________
(1) الموضة لفظ مُعرب عن الكلمة الفرنسية «la mode»؛ وهي تعني الشائع أو الدارج؛ أي أن يُساير الشخص الآخرين في لباسهم وطعامهم ونمط حياتهم، والموضة من ثمار الرأسمالية والحداثة الغربية، وهي مفهوم معقد، يتداخل فيه عوامل نفسية واجتماعية واقتصادية وفلسفية.
(2) Compulsive Buying Disorder.