ضمن الانتقادات التي كانت تُوجَّه لشرائح كثيرة داخل المجتمع السوداني، هي الإفراط في الاستهلاك، وخاصة الاستهلاك القائم على التفاخر والتمايز بين أفراد المجتمع، إضافة إلى الإسراف في استخدام الاتصالات التلفونية التي كانت تستهلك جزءًا كبيرًا من دخل الأسرة السودانية، حتى إن بعض السودانيين كان يتندر على البعض الآخر بأن النيل لم يغرق السودانيين، ولكن الاتصالات توشك أن تغرقهم!
كما أن الاستخدام المفرط لمواد التجميل وأدواته وخاصة المرأة حاز على النصيب الأكبر من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي قبل الحرب.
ومن الصور التي كانت مألوفة في البيوت والشوارع السودانية تلك العزومات الجماعية، حيث ينفق المُضيف على ضيوفه عشرات الأضعاف من احتياجاتهم، ثم يلقى بكميات كبيرة في صناديق القمامة، وهو ما تشكلت لأجله مجموعات كبيرة من الشباب تطالب بوقف هدر الطعام وتحاول استغلال الفوائض في التوزيع عبر إعادة تنقيتها وتغليفها وتوزيعها على الفقراء.
كان كل ذلك يحدث قبل اندلاع الحرب المدمرة بين قوات التمرد في «الدعم السريع»، والجيش السوداني، في 15 أبريل 2023م، مع ملاحظة أن هذا النمط من الاستهلاك كان يتركز في العاصمة الخرطوم بشكل أساسي، وفي بعض عواصم الولايات الكبرى.
واقع جديد
لم يتوقع الشعب السوداني أو غيره من المهتمين بالشأن الأفريقي عمومًا، والسوداني على وجه الخصوص، أن تندلع حرب بين جناحي الجيش السوداني، ويكون وقودها المدنيين من أفراد الشعب وبيوتهم وممتلكاتهم، خاصة أن كل طرف كان له أنصار يعتقدون بصحة موقفه.
وكان الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي أن الحسم العسكري سيكون في مقار القيادة العامة وقيادات الجيش والقصر الجمهوري، ولكن ميدان الحرب تحول إلى بيوت المواطنين ومصالحهم ومتاجرهم، وهو ما أنتج واقعًا بائسًا بين أفراد الشعب الذين هربوا من بيوتهم وممتلكاتهم لا يبغون إلا النجاة بأنفسهم من هذه المحرقة، وهو ما كان له أبلغ الأثر على تغيير إجباري في أنماط الاستهلاك التي كانت سائدة قبل الحرب.
أنماط الاستهلاك السوداني
يمكن تقسيم أنماط السلوك الاستهلاكي السوداني إلى مراحل تاريخية محددة، حيث كانت مرحلة ما قبل استخراج النفط في عام 1998م هي المرحلة التقليدية؛ وكان النمط السائد فيها هو الاعتماد على الاستهلاك المحلي، حيث الوليمة أو العزومة داخل منزل الأسرة، أو دوار العائلة، مع ارتداء الملابس المحلية السودانية (الجلابية للرجال)، و(الثوب السوداني للسيدات)، والاعتماد على العطور وأدوات التجميل محلية الصنع، التي اشتهر بها السودان.
ومن سمات هذه المرحلة أيضًا ندرة وجود السيارات الخاصة في الريف السوداني، ومقارنة بالخرطوم والمدن الكبرى، التي أيضًا لم تكن تشهد هذا التزاحم من السيارات التي ظهرت في مرحلة ما بعد النفط، خاصة أن الخرطوم العاصمة بأحيائها الثلاثة التي تضم الخرطوم، وبحري، وأم درمان، لم يكن بها شوارع مكتملة الرصف سوي شارع المطار والقصر الجمهوري والكورنيش وشارع الجامعة، أما باقية الشوارع فكانت ترابية أو معبدة دون رصف.
ولم تشهد شوارع الخرطوم في هذه المرحلة ذلك الانتشار الكبير لمطاعم الوجبات الجاهزة، حيث كان العدد محدودًا، لأن انتشار ثقافة تناول الوجبات الجاهزة لم تكن هي السائدة في ذلك الوقت.
ويمكن وصف النمط الاستهلاكي في هذه الفترة بالنمط العائلي البسيط، الذي اكتفت فيه الأسر السودانية باقتناء ما تحتاجه فقط، لقلة الموارد من ناحية، وندرة السلع الاستهلاكية من ناحية أخرى.
الشراهة الشرائية
بعد تدفق النفط السوداني في أسواق العالم، وجني ثماره، بدأت تنتشر بالبلاد الرغبة الجامحة في عملية الشراء، وهي المرحلة التي أطلق عليها خبراء دراسات السوق مرحلة الشراهة الشرائية، التي انتابت عدداً كبيراً من الدول العربية ومن بينها السودان، وهيمنة على النمط الاستهلاكي لفئات كثيرة من الشعب السوداني بعد تدفق عوائد النفط فيما بعد عام 2000م.
وساهم في موجة الشراهة الشرائية هذا التدفق الكبير لعائدات العاملين بالخارج الذين يرسلون جزءاً من أموالهم بشكل شهري إلى عوائلهم في السودان، وهو ما التقفه رجال الأعمال وتم ترجمته إلى إقامة مئات المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي والمولات الكبرى؛ مما غير شكل العاصمة تماماً لتبدأ مرحلة جديدة من الأنماط الاستهلاكية القائمة على فكرة الصرف حتى آخر جنيه دون الاعتراف بالمدخرات البنكية؛ لأن ثقافة الادخار لم تكن سائدة عند معظم طبقات الشعب السوداني.
تغييرات ما بعد الحرب
لا شك أن اعتداء «قوات الدعم السريع» على العاصمة الخرطوم شكَّل ضربة قاسمة للاقتصاد السوداني، وقضى على جزء كبير من أشكال الحداثة بالعاصمة؛ لأن الحرب حتى الآن قضت تقريباً على كل ما أنجزه حكم البشير من شكل حضاري في ربوع البلاد المختلفة، وخاصة في الخرطوم التي يقطنها 12 مليوناً من بين 40 مليون سوداني، كما أن قرابة 70% من منتج الحداثة والرفاهية كان يتركز بالعاصمة الخرطوم، وعقب تدمير كل هذا المنتج إضافة للبنوك والمنازل والمصانع قد أجبر الشعب السوداني على تغير أنماط سلوكه الاستهلاكية، وبدأت ثقافة الادخار والصرف بحذر تتصدر المشهد بدلًا من أنماط الاستهلاك غير المحسوب التي كانت سائدة قبل ذلك، ويتردد كثيراً الآن المثل القائل: «القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود»، وهو حل بدلًا عن ثقافة الصرف المطلق اعتمادًا على ما كان سائدًا بـ«رزق يوم بيوم».
وفي لقائنا مع أحد كبار الدبلوماسيين الذي كان يعمل في سفارة السودان بالعاصمة الأمريكية واشنطن، كشف لنا عن تغيير كبير في النمط الاستهلاكي السوداني، حيث يتغلب الحذر على هذا النمط خوفًا من ذل الحاجة، وقال: إنه قام فور وصوله للقاهرة بعد الحرب بإعداد جدول للمصروفات اليومية على مدار العام، ولم يخالف ما كتبه بجنيه واحد، وهو ما يدلل أيضًا على انتهاء ثقافة «رزق يوم بيوم» التي تعني صرف كل ما تملك، وتنتظر أن يأتيك الرزق في اليوم التالي.