أورد الأصبهاني في «حلية الأولياء» أن الفضيل بن عياض دخل على هارون الرشيد، أمير المؤمنين، فقال له: إني ما رأيت أحداً هو أحسن وجهاً منك، فإن قدرت ألا تُسوِّد هذا الوجه بلفحة من النار فافعل، فقال هارون: عظني، قال الفضيل: إني رأيت الناس يغوصون في النار غوصاً شديداً، ويطلبونها طلباً حثيثاً، أما والله لو طلبوا الجنة بمثلها أو أيسر لنالوها.
ولما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز، دعا سالماً بن عبدالله، ومحمداً بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليَّ، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت، وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك، وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت(1).
إذا رقَّ قلب الداعية وابتعد عن المعصية فإن ذلك يجعله أقرب إلى الله وأكثر تأثيراً في الدعوة إليه
إن الناظر في هذه الوصايا التي ساقها العلماء للخلفاء في عصر الحضارة الإسلامية، يجد أنها تركز على توجيه القلوب نحو اليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء وجنة ونار، ولم يكن هذا التوجيه من العلماء للخلفاء والأمراء فقط؛ بل إنهم حرصوا على إعداد الدعاة من خلال التركيز على الإيمان باليوم الآخر ودوام التذكير به.
فلماذا حرص العلماء في عصر الحضارة الإسلامية على إعداد الدعاة على دوام التذكير باليوم الآخر؟
أولاً: رقة قلب الداعية وابتعاده عن المعصية:
إن التذكير باليوم الآخر يجعل القلب دائماً موصولاً بالله تعالى، وطامعاً في جنته وخائفاً من عذابه، وهذا يجعل الإنسان مشغولاً عن فعل المعاصي والسيئات، وهذه صفة لازمة للدعاة، فإذا رق قلب الداعية وابتعد عن المعصية؛ فإن ذلك يجعله أقرب إلى الله تعالى وأكثر تأثيراً في الدعوة إليه، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما ورد عن عمرو بن عليّ، قال: سمعت عبدالرحمن بن مهدي، يقول: ما عاشرت في الناس رجلاً أرق من سفيان الثوري، وكنت أرمقه في الليلة بعد الليلة ينهض مرعوباً ينادي: النار النار! شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات.
وقال يوسف بن أسباط، قال لي سفيان الثوري وقد صلينا العشاء الآخرة: ناولني المطهرة أتوضأ بها، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده، ونمت، فاستيقظت وقد طلع الفجر، فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هو، فقلت: هذا الفجر قد طلع، فقال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة(2).
التذكير باليوم الآخر يدفع إلى الخوف من الله والخشية من عذابه ما يؤدي إلى المسارعة بالخيرات
ثانياً: البكاء من خشية الله تعالى:
فهذا سيدنا عمر بن عبدالعزيز وهو أمير المؤمنين، قرأ عنده رجل قول الله تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً {13} لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (الفرقان)، فبكى حتى غلبه البكاء، وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته وتفرق الناس(3)، وهذا سوّار بن أبي عبيدة قال: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه، فقال لي: يا سوار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إليَّ؟ إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه، فتمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يدها إلى عنقها وتسحب في النار، ألا تصيح فتبكي؟ وكيف لنفس تعذَّب ألا تبكي؟ ويحك يا سوار وما أقل غناء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله!
وهذا بشر بن منصور قال: قلت لعطاء السلمي: يا عطاء، لماذا الحزن؟ قال: ويحك، الموت في عنقي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، وربي لا أدري ما يصنع بي، ثم تنفس فغشي عليه(4).
ثالثاً: إقامة العبادات والمسارعة في الخيرات:
إن التذكير الدائم باليوم الآخر يدفع إلى الخوف من الله والخشية من عذابه؛ مما يؤدي إلى إقامة العبادات والمسارعة في الخيرات، فقد قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ {57} وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {58} وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ {59} وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ {60} أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون)؛ ولهذا كان الدعاة في الحضارة الإسلامية يؤدون العبادات وقلوبهم متعلقة باليوم الآخر.
فهذا شداد بن أوس الأنصاري، كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول: اللهم إن النار أذهبت مني النوم، فيقوم فيصلي حتى يصبح(5)، وهذه بنت الربيع بن خثيم ترى الناس ينامون وأباها لا ينام بالليل، بل يقضي ليله في القيام، فتقول له: يا أبتاه، ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ قال: إن جهنم لا تدعني أنام(6)، ولما مات عمرو بن عتبة دخل بعض أصحابه على أخته فقالوا: أخبرينا عنه، فقالت: قام ليلة فاستفتح «حم» (غافر)، فأتى على هذه الآية: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ) (غافر: 18) فما جاوزها حتى أصبح(7).
الداعية الذي يتذكر اليوم الآخر دائماً إنما يكون طمعه فيما عند الله تعالى من الثواب والجزاء
رابعاً: الحرص على بلوغ الكمال في الأعمال:
المؤمن باليوم الآخر لا يؤدي أعماله كغيره من الناس، بل يحرص على أدائها على أفضل الوجوه وأكملها، لأنها تعرض على الله تعالى، وهو الذي يجازي عليها، والجزاء يوم القيامة من أقوى دوافع الإنسان إلى الكمال والرقي في حياته الدنيا، ليحوز المكانة السامية عند الله سبحانه في الدار الآخرة، قال تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {39} وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى {40} ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى {41} وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (النجم)، وقال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة)، ومما يدل على حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على أداء الأعمال على أفضل حال ما قاله حفص بن عمر: كان الربيع بن خثيم لا يعطي السائل أقل من رغيف، ويقول: إني لأستحيي أن يرى في ميزاني أقل من رغيف(8).
خامساً: عدم الطمع في الدنيا:
إن الداعية الذي يتذكر اليوم الآخر دائماً، إنما يكون طمعه فيما عند الله تعالى من الثواب والجزاء، وهذا يجعله زاهداً في الدنيا وراغباً في الآخرة، ويدل على ذلك ما أوصى به سيدنا عمر بن عبدالعزيز بعض الدعاة بقوله: أَمَّا بَعْدُ: فَكَأَنَّ الْعِبَادَ قَدْ عَادُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا تَدْرِي مَتَى يَغْشَاكَ، فَلَا مَنَاصَ وَلَا فَوْتَ، وَأَكْثِرْ ذِكْرَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِدَّتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُوكَ إِلَى الزَّهَادَةِ فِيمَا طمعت فِيهِ، ثُمَّ كُنْ مِمَّا أُوتِيتَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى وَجَلٍ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَحْذَرُ ذَلِكَ وَلَا يَتَخَوَّفُهُ، تُوشِكُ الصَّرْعَةُ أَنْ تُدْرِكَهُ فِي الْغَفْلَةِ(9).
الإيمان باليوم الآخر يسهم في إعداد الداعية إيمانياً وتعبدياً وأخلاقياً ودعوياً حتى تستقيم حياته
وإذا كانت الحضارة الإسلامية قد اعتنت بإعداد الدعاة على الإيمان باليوم الآخر ودوام التذكير به، فما أهم الوسائل التي اعتمد المربون عليها في ذلك؟
أولاً: الموعظة: فهذا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ، يَخْطُبُنَا عَلَى مِنْبَرِ الْمَدَائِنِ، فَجَعَلَ يَعِظُنَا حَتَّى بَكَى وَأَبْكَى، فَقَالَ: كُونُوا كَرَجُلٍ قَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ أُوصِيكَ أَنْ لَا تُصَلِّيَ صَلَاةً إِلَّا ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تُصَلِّي بَعْدَهَا غَيْرَهَا حَتَّى تَمُوتَ، وَتَعَالَ بُنَيَّ حَتَّى نَعْمَلَ عَمَلَ رَجُلَيْنِ كَأَنَّهُمَا قَدْ أُوقِفَا عَلَى النَّارِ ثُمَّ سَأَلَا الْكَرَّةَ(10)؛ يعني الرجوع مرة أخرى.
ثانياً: النصيحة: فقد مرّ الحسن البصري على رجل فوجده يضحك كثيراً، فنصحه قائلاً: هل أتاك بأنك وارد النار على الصراط؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك ناج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ قيل: فما رؤي الرجل ضاحكاً حتى لحق بالله(11).
ثالثاً: الوصية: أوصى عمر بن عبدالعزيز إلى بعض عماله قائلاً: لا تطلبن شيئاً من عرض الدنيا بقول ولا فعل تخاف أن يضر بآخرتك، فيزري بدينك، ويمقتك عليه ربك، واعلم أنه لن يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر أو بلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء، ما يجد أهل الجنة مس مكروه أصابهم في دنياهم، وما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم، كل شيء من ذلك كأن لم يكن(12).
رابعاً: أخذ العهود والمواثيق: فهذا سلمان الفارسي لما حضرته الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: عهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوم القيامة، حيث قال: «ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب»، فلما مات نظروا في بيت سلمان فلم يجدوا إلا عشرين درهماً(13).
خامساً: القدوة: فهذا يزيد بن أبان الرقاشي كان يبكي كثيراً، فكان ولده يراه ويتعجب من حاله! ثم قال له يوماً: يا أبت، لو خلقت النار لأجلك ما زدت على ما تصنع، فقال: وهل خلقت النار إلا لي ولأمثالي من الجن والإنس، فما زال ولده متأثراً بذلك(14).
إن الإيمان باليوم الآخر يسهم في إعداد الداعية إيمانياً وتعبدياً وأخلاقياً وسلوكياً ودعوياً، حتى تستقيم حياته في جميع جوانبها.
___________________________
(1) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، (8/ 105).
(2) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (10/ 225).
(3) سيرة عمر، ابن الجوزي، ص 156.
(4) صفة الصفوة، ابن الجوزي (2/ 193).
(5) حلية الأولياء، الأصبهاني، (1/ 264).
(6) صفة الصفوة: ابن الجوزي (2/ 36).
(7) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي (10/ 225).
(8) صفة الصفوة، ابن الجوزي (2/ 38).
(9) الزهد، ابن أبي الدنيا، ص 107.
(10) الرقة والبكاء، ابن أبي الدنيا، ص 98.
(11) تفسير الطبري (18/ 234).
(12) حلية الأولياء، الأصبهاني (5/ 279).
(13) المرجع السابق (1/ 197).
(14) ربيع الأبرار، الزمخشري (4/ 170).