القرآن الكريم كتاب الله المنزّل على النبي صلى الله عليه وسلم، مليء بالحكم والمعاني العميقة التي تهدي البشرية نحو الطريق المستقيم، من بين تلك الحكم نجد حثًّا قاطعًا وصريحًا على التفكير والتدبر في خلق الله تعالى، وإعمال فريضة التفكير وتشغيل العقل.
في هذا المقال، سنتناول بعض الآيات القرآنية التي تحث على هذه الأمور، مع تفسيرها وكيف تعزز من فهمنا وإدراكنا للعالم من حولنا.
أولاً: آيات تحث على التدبر في خلق السماوات والأرض:
قال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) (آل عمران: 190)؛ تؤكد هذه الآية ضرورة التأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض، وملاحظة الدقة والتناغم الذي أوجدهما الله به، إنها تشير إلى أن هذا الكون بما يحتويه من نظم دقيقة، لا يمكن أن يكون قد وُجد صدفة، وإنما هو من صنع إله عليم حكيم.
قال ابن كثير في مدح التدبر وذم الغفلة تفسيراً لهذه الآية: لأولي الألباب؛ أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) (آل عمران: 191)؛ أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم(1).
وقد روي عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: دخَلْتُ أنا وعُبيدُ بنُ عُميرٍ على عائشةَ فقالت لِعُبيدِ بنِ عُميرٍ: قد آن لك أنْ تزورَنا فقال: أقولُ يا أمَّهْ كما قال الأوَّلُ: زُرْ غِبًّا تزدَدْ حُبًّا قال: فقالت: دعُونا مِن رَطانتِكم هذه قال ابنُ عُميرٍ: أخبِرينا بأعجَبِ شيءٍ رأَيْتِه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فسكَتَتْ ثمَّ قالت: لَمَّا كان ليلةٌ مِن اللَّيالي قال: «يا عائشةُ، ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي»، قُلْتُ: واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وأُحِبُّ ما سرَّك قالت: فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصَلِّي قالت: فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه قالت: ثمَّ بكى فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ فلمَّا رآه يبكي قال: يا رسولَ اللهِ، لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا، لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..)»(2).
فالتدبر هنا ليس مندوباً فقط، وإنما رتب رسول الله صلى الله عليه وسل الويل لمن ترك التدبر في هذه الآية إذ يتم بها الإيمان والاعتقاد، ومن هنا يأخذ التدبر درجته في الحكمة والحكم.
في نفس السياق نجد قوله تعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ) (الغاشية)؛ هنا يدعو الله الناس للتفكر في التفاصيل الدقيقة لخلق النعم التي يستخدمونها في حياتهم اليومية؛ كالإبل والسماء، مؤكداً أن تلك المخلوقات ليست مجرد صدفة بل هي دليل على عظمة الله وعلمه اللامحدودين.
يقول الزمخشري: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ نظر اعتبار كَيْفَ خُلِقَتْ خلقاً عجيباً، دالاً على تقدير مقدر، شاهداً بتدبير مدبر، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها: لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار(3).
وقد روي عن أنس بن مالك أن نفراً من قبيلة عكل قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، ثم استوحموا أرض المدينة -وسقمت أجسامهم- فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: «ألا تخرجوا مع راعينا في إبله فتصيبون من أبوالها وألبانها..؟»، فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا(4).
ووقع خصوص التداوي بأبوال الإبل في حديث أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس: «عليكم بأبوال الإبل فإنها نافعة للذربة بطونهم»(5).
وهو حث على النظر مع إبراز المثال الحي المرئي أمام الجميع ونقله من درجة الاعتيادية إلى مرتبة النظر والبحث، ثم يكتشف الرائي أنه أمام آية من آيات الله يمر عليها بكرة وعشية، فهو هنا يحدث نفسه ولا شك أن التدبر في السماوات والأرض والخلق والبعث أحرى وأقوم.
ثانياً: آيات تحث على إعمال العقل:
قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22)؛ تطلب هذه الآية من المؤمنين وأهل العلم أن يستخدموا عقولهم في فهم التنوع الكبير الذي خلقه الله في اللغات والألوان، والدلالة الكبيرة التي تعكسها في قدرة الله التي لا تحد، مما يؤكد أهمية العلم والتفكر.
وفي ذلك يقول سيد قطب: ومع آية السماوات والأرض عجيبة اختلاف الألسنة والألوان، بين بني الإنسان، ولا بد أنها ذات علاقة بخلق السماوات والأرض، فاختلاف الأجواء على سطح الأرض واختلاف البيئات ذلك الاختلاف الناشئ من طبيعة وضع الأرض الفلكي، ذو علاقة باختلاف الألسنة والألوان، مع اتحاد الأصل والنشأة في بني الإنسان(6).
وإنه لم يقدر على حصر هذه الاختلافات في السماوات والأرض أو في الإنسان نفسه بين أجناسه، فكيف بمن خلق هذه الاختلافات وجعل لكل منها نظاماً لا تشذ عنه وطريقة لا يخرج عليها؟! فسبحان الله البارئ المصور!
وقال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (يونس: 67)؛ تذكر هذه الآية أهمية تدبر وتفكر الإنسان في مظهر الليل والنهار، وضرورة الإقرار بحكمة الله البالغة في خلق الكون وتنظيمه بالحكمة البالغة التي يظهرها الله في كل جوانب الحياة.
يقول الإمام السعدي: جعل النهار مضيئًا، يبصر به الخلق، فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم؛ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات لقوم يسمعون، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرؤوف الرحيم العليم الحكيم(7).
وقد قيل: مِن لطائفِ المُناسَبة أنَّ النورَ الذي هو كيفيَّةُ زَمَنِ النَّهارِ شيءٌ وُجوديٌّ، فكان زمانُه حقيقًا بأن يُوصَفَ بأوصافِ العُقَلاءِ، بخلافِ اللَّيلِ؛ فإنَّ ظُلمَتَه عَدَميَّةٌ، فاقتُصِرَ في العبرةِ به على ذِكرِ الفائدةِ الحاصلةِ فيه، وهي أن يسكُنوا فيه(8).
إن القرآن لم يدع شيئاً حول المسلم إلا أشار إليه ليجعله آية للتدبر ويخرجه من طور العادي إلى المميز، فهذا الليل والنهار يمران على المرء كل يوم ولا يشعر بهما، لكن القرآن أحال النظر إليهما من زاوية أخرى؛ حيث السكون والعمل والراحة والجد والفترة والنشاط وكيفية إسقاط ذلك على الإنسان وأفكاره وحركته، وكأن القرآن يريد أن يخرج الإنسان نفسه من طور العادي إلى المميز بالتدبر.
ثالثاً: أثر التفكر والتدبر على الإيمان والتقوى:
قال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)؛ تؤكد هذه الآية أن جميع مظاهر الطبيعة والكون ليست فقط جزءًا من منافع البشر اليومية، بل هي أيضًا دلائل على وجود الله وقدرته، وهي دعوة مباشرة للتدبر والتفكر واستخدام العقل في كل ما حولنا.
وقد ذكر ابن جرير في تفسير هذه الآية كلمات داحضة لكل شرك، مفندة لأي دعوى إلحاد، حيث قال: ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حُججي وفكروا فيها، فإن من حُججي خَلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثتُ فيها من كل دابة، والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض، فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ، وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري، فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه(9).
وفي هذا أن هذه الآيات بها أصل التوحيد ونفي الشرك، وقد روي عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: (وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 163)، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)، إلى قوله: (لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.
الدعوة القرآنية إلى التدبر والتفكر وإعمال العقل دعوة دائمة للإنسان ليستفيد من قدراته العقلية والتأملية في التعرف على عظمة الله وقدرته، إن التفكر في خلق الله وفي مظاهر الطبيعة والكون يقوي الإيمان ويرسخ التقوى في النفوس، ويجعل الإنسان يشكر الله على نعمه المتعددة ويزداد حبًا لله واستقامة على طريقه، يجب علينا كمسلمين أن نستجيب لهذه الدعوة الربانية بالبحث والتعلم والتدبر في كل شيء من حولنا، لننال السعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة.
________________________
(1) تفسير ابن كثير.
(2) صحيح ابن حبان.
(3) تفسير الكشاف.
(4) صحيح البخاري.
(5) صحيح البخاري.
(6) في ظلال القرآن.
(7) تفسير السعدي.
(8) تفسير ابن عاشور.
(9) تفسير الطبري.