كاتب المدونة: وليد شوشة (*)
لم نتخيل يوماً يظل العالم بأسره يشاهد حرب إبادة جماعية متكاملة الأركان وبكامل تفاصيلها المأساوية لحظة بلحظة وكأنه يشاهد فيلماً سينمائياً؛ ولم يُحرك ساكناً لإيقاف تلك المجازر الرهيبة، أو لإنقاذ حياة عشرات آلاف الأطفال والنساء الذين يصرخون: بأي ذنب نُقتل؟!!
لقد قرأنا كثيراً عن تاريخ “إسرائيل” الدموي، ومجازرها الرهيبة، وعن دماء الأبرياء التي لم تجف بعد، ومازالت تسيل أنهاراً، ولكن لم نتخيل أن نبقي حتى نراها بأعيننا ونشاهدها بفظاعتها وخستها في القرن الواحد والعشرين، وقد ظننا أنها أصبحت من الماضي.
ولكن كيف تتوقف؟ والقاتل واحد، وتاريخه الدموي واحد، ونهجه واحد، وعقيدته في الإبادة والقتل واحدة!! إن ما تغير هو الممثل ولكن الدور واحد لم يتغير!! فالمعركة التي شنتها “إسرائيل” على العرب قبيل قيام دولتهم على أشلائهم وعلى أنقاض قراهم، معركة لم يخب أوارها حتى اللحظة الحاضرة، بنفس الوسائل، ونفس الأساليب، لا يتغير إلا شكلها، أما حقيقتها فباقية، وأما طبيعتها فواحدة.
وذلك على الرغم من أن العالم كله كان يطارهم من جهة إلى جهة ومن قرن إلى قرن، فلا يجدون لهم صدراً حنوناً إلا في العالم الإسلامي وبين العرب.
نقترب من عشرة أشهر على حرب إبادة جماعية ومحو مدينة من الخريطة ظلت محاصرة لسنين طويلة؛ والمشاهد التي لا تتوقف فظيعة والقصص مرعبة، والواقع مؤلم، والعار والشنار يلاحق دول العالم وساسته وحكامه ومنظماته الدولية وأممه المتحدة العاجزة ومجلسه الأمني المتواطئ بالفيتو الأمريكي.
كل هؤلاء يقفون مكتوفي الأيدي؟! لا.. بل يقف بعضهم داعم ومؤيد، وبني جلدتنا ساكتون، والساكت عن الحق كفاعله، والناطق بالباطل شيطان ناطق.
إن ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي لهو شيء فظيع، ومأساة لم تنتهي بعد فصولها الدرامية، وقصصها المؤلمة المكتوبة بالدماء والأشلاء والدمار، هذه بعض علاماتها، بعد مرور ستة أشهر على العدوان:
2721 مجزرة ارتكبها جيش الاحتلال يشيب لهولها الولدان، 37.960 شهيداً ومفقوداً، 30.960 شهيدا ممن وصلوا إلى المستشفيات، منهم 13.500 شهيداً من الأطفال، 23 طفلا استشهدوا نتيجة المجاعة. 9000 شهيدة من النساء، 364 شهيدا من الطواقم الطبية، 48 شهيدا من الدفاع المدني، 133 شهيداً من الصحفيين، 7000 مفقود 72% منهم من الأطفال والنساء،17.000 طفل يعيشون بدون والديهم أو بدون أحدهما. 72.524 مصاباً، 11.000جريح حالتهم حرجة، 10.000مريض سرطان يواجهون خطر الموت، 700.000 مصاب بالأمراض المعدية نتيجة النزوح، 8000 حالة عدوي التهابات الكبد الفيروسي ، 60.000 سيدة حامل مُعرضة للخطر لعدم توفر الرعاية الصحية، 350.000مريض مزمن معرضون للخطر لعدم إدخال الأدوية، 269 حالة اعتقال ممن الكوادر الطبية، 10 حالات اعتقال من الصحفيين، 2 مليون نازح في قطاع غزة، 166 مقراً حكومياً دمرها الاحتلال، 305مدرسة وجامعة دمرها الاحتلال بشكل كلي، 295 مدرسة وجامعة دمرها الاحتلال بشكل جزئي، 184 مسجداً دمره الاحتلال بشكل كلي، 266 مسجداً دمره الاحتلال بشكل جزئي، 3 كنائس دمرها الاحتلال، 70.000 وحدة سكنية دمرها الاحتلال بشكل كلي، 290.000 وحدة سكنية دمرها الاحتلال بشكل جزئي ولكنها غير صالحة للسكن، 70.000 طن من المتفجرات ألقاها الاحتلال على غزة، 31 مستشفى أخرجها الاحتلال من الخدمة، 53 مركزاً صحياً أخرجه الاحتلال من الخدمة، 155 مؤسسة صحية استهدفها الاحتلال، 126 سيارة اسعاف دمرها الاحتلال، 200 موقع أثري وتراثي دمره الاحتلال.
ومما يؤسف له أن هذه الأرقام في زيادة كل ثانية، وهذه المآسي لم تتوقف لحظة، ودماء الأطفال والنساء ما تزال تنزف.
وتقف غزة بين دعم مطلق وتأييد لا مثيل لـ “إسرائيل” من الجانب الأمريكي كعادته في الوقوف إلى جنب ربيبته، ونبته الشيطاني الذي غرسه في قلب العالم العربي. وكذلك الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا وألمانيا، وغيرهما من الدول التي تخفي تواطؤها مع أمريكا لصالح “إسرائيل” ببعض التصريحات المتحفظة على الاجتياح والقتل، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي لا يكف عن مناشدة “إسرائيل” بإدخال المساعدات، أما الكلام عن وقف إطلاق النار وانهاء الحرب فلا نسمع له صوت.
وقد وقف الجميع صامتا أو داعما ومصدقا للحملة التي شنتها “إسرائيل” على منظمة دولية تابعة للأمم المتحدة، وهي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين(الأونروا).
والجسر الجوي التي أقامته الولايات المتحدة إلى “إسرائيل” ما زال قائما ومستمراً لتمويل الكيان الصهيوني بكافة أنواع الأموال والأسلحة الأشد فتكا وبكافة أنواعها، والتي تساعد على القتل والتدمير مما يدعم ويؤيد: بأن أمريكا متورطة في حرب الإبادة على غزة. فقد أرسلت الولايات المتحدة أكثر من 300 طائرة شحن، ونحو 50 سفينة، وسلمت “إسرائيل” 35 ألف طن من الأسلحة والمعدات.. هذه المساعدات تساوي القوة التدميرية لقنبلتين نوويتين من تلك التي ألقيت على هيروشيما.
إن الذين يأملون في الولايات الأمريكية خيراً، ويطلبون منها دعم الفلسطينيين ووقف القتال واهمون! وما الإسراع بالدعم النفسي والتأييد المعنوي عبر الزيارات المتكررة لوزير الخارجية بلينكن – ست زيارات حتى الآن- والذي صرح في أول زيارة بعد السابع من أكتوبر:” لقد أتيت إلى هنا كيهودي”، والرئيس الأمريكي جو بايدن الذى صرح:” ليس من الضروري أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونيا”، ووزير الدفاع والمخابرات وغيرهم سوى تأكيد لا يحتاج إلى برهان أصلاً، فإنهم ما أخفوا يومًا دعمهم لـ “إسرائيل” والدفاع عنها بكل قوة في المنظمات الدولية والحقوقية وتبرير ما تقوم به من جرائم حرب ضد الإنسانية بأنها دفاع عن النفس.
بل الأدهى والأمر أنها استخدمت حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات ضد مقترحات ناقشها مجلس الأمن الدولي لوقف الحرب على غزة لدواعي إنسانية ودخول المساعدات من طعام ودواء لمواجهة المجاعة التي يتعرض لها قطاع غزة وخاصة شماله، ومنعه من إصدار قرار يقضي بإدانة “إسرائيل”.
وهذه العلاقة والتبني الأمريكي للكيان الصهيوني ليس جديداً، ولكنه ولد مع ميلاد دولة “إسرائيل”، وربما قبلها بعد إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين لتتمدد الصهيونية العالمية في فراغها، وترث أمريكا تركة الإمبراطورية العجوز..
وعندما زار الرئيس كارتر القدس المحتلة في آذار / مارس 1979م وقف أمام الكنيست “الإسرائيلي” ليؤكد أن:” علاقة أمريكا بـ “إسرائيل” أكثر من مجرد علاقة خاصة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي”. أما مستشاره لشؤون الأمن القومي بريجنسكي، فيقول:” إن على العرب أن يفهموا أن العلاقات الأمريكية “الإسرائيلية” لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأمريكية العربية، لأن العلاقات الأمريكية “الإسرائيلية” علاقات حميمة مبنية على التراث التاريخي والروحي الذي يتعزز باستمرار بواسطة النشاط السياسي لليهود الأمريكيين”.
وعندما زار ريجان معبدًا يهوديًا في نيويورك عام 1984م قال:” جميعنا هنا اليوم أحفاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أبناء وبنات الإله نفسه”. وأوباما نفسه قد صرح أمام لجنة إيباك أنه:” صديق صادق الولاء لـ “إسرائيل””.
وموقف الولايات المتحدة الأمريكية اليوم واضح وجلي ولا يحتاج إلى مزيد شرح وتعليق. فكل همها ومسعاها هو أمن “إسرائيل” وإنهاء القطيعة العربية معها، وضمها إلى الحضن العربي عبر التطبيع، وإنهاء حالات العداء، والعمل على قيام دولة فلسطينية منزوعة الدسم، حبر على ورق، واسم بلا هوية ولا معني، ثم الالتفاف حول المقاومة وإنهاء حركة حماس، ومحاولة تكوين الأحلاف العربية ضدها للقضاء عليها مهما كلف الثمن.
والموقف العربي عاجز ومشلول، هكذا أُريد له أن يكون! اكتفي خلال هذه الشهور بعقد قمة الرياض العربية الإسلامية، والتي ندد فيها الزعماء بالحرب “الإسرائيلية”، وطالبوا بهدنة إنسانية وتقديم المساعدات، وقد عجزوا عن إدخالها، واكتفوا بإرسال عشرات الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية والأدوية التي تقف خلف معبر رفح منذ شهور لأن “إسرائيل” رفضت دخولها.
وبصرف النظر عما يمتلكه العرب من أوراق ضغط، وإمكانات اقتصادية هائلة، وفي مقدمتها النفط والغاز، والاستثمارات العربية في أمريكا وأوروبا، والمشاريع مع الشركات الغربية المتعددة الجنسيات، وسلاح الجماهير بأعدادها الغفيرة والتي لو هدرت لأحدثت تأثيرا كبيراً، ولحسب لهدرها ألف حساب. ولكن للأسف حيل بينها وبين الميادين، وكُتمت أصواتها فلم نعد نسمع لها إلا صوتاً خافتاً في بعض العواصم العربية.
ومع ذلك فإن الموقف العربي يمتلك قوة سياسية ودبلوماسية كبيرة، من قطع العلاقات، وطرد السفراء، وإلغاء التطبيع، بالإضافة إلى ورقة العلاقات العربية الأمريكية القوية التي ربما تساعد لو تم استخدامها كما يجب للضغط على “إسرائيل”، وكذلك العلاقات العربية الأوروبية والتي تتقاطع مع المواقف وتتفق مع بعضها البعض في جزئيات يمكن البناء عليها. ولكن لم يُستخدم إلا في الرجاء والاستعطاف في مناشدة أمريكا بالتدخل ووقف الأعمال الوحشية “الإسرائيلية”، ودخول المساعدات.
باستثناء الدبلوماسية القطرية التي لم تتوقف منذ العدوان “الإسرائيلي” على القطاع، وقد حققت بعض النجاحات بفرض هدنة إنسانية لتبادل وتحرير بعض الأسرى المدنيين من الطرفين، وإدخال بعض المساعدات الإنسانية والأدوية.
أما عن المقاومة التي مرغت أنف الاحتلال في الرمال في هجوم السابع من أكتوبر2023م، وكسرت كبرياء جيشها الذي لا يقهر، والذي يُعد بأنه من أقوى جيوش العالم المتطور، والذي يمتلك إمكانيات لا تتوفر لكثير من الجيوش العربية.. كما نقلت المقاومة المعركة إلى قلب ديار الاحتلال الصهيوني لأول مرة في تاريخ الصراع العربي “الإسرائيلي”، وأسرت عشرات الضباط والجنود في عملية ما زال صداها يهز الكيان الصهيوني حتى الآن.
والمقاومة مازالت رغم حملة الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الصهيوني، ودخوله قطاع غزة بكامل عدته وعتاده وجنوده المدربين وأجهزته الحديثة، بالإضافة إلى الدعم الأمريكي والأوروبي العسكري والاستخباراتي غير المحدود؛ تؤلم الجيش الصهيوني وتقتل جنوده وضباطه بالمئات، وتضرب وتحرق دباباته وآلياته المدرعة والمتطورة بسلاح مصنوع يدوي ومحلي.. وعبر شبكة الأنفاق يخرج المقاومون يكبدون جيش الاحتلال خسائر كبيرة ومؤلمة بشكل يومي.
وما تزال المقاومة فاعلة ومؤثرة وتمتلك الحاضنة الشعبية التي لم تنقلب عليها أو تحملها مسؤولية ما حدث لهم، والتي زادت شعبيتها على مستوى الجماهير في العالم كله وخاصة الغربي، الذي تخرج جماهيره بمئات الآلاف أسبوعياً في العواصم والمدن الغربية، منددة بالعدوان “الإسرائيلي”، ومؤيدة للحق الفلسطيني.
وما تزال تمتلك أوراق قوة تدعهما العمليات العسكرية في الميدان ُوالتي تكبد العدو الصهيوني فيها الخسائر الكبيرة، مع ورقة الأسرى المهمة وعددهم بالمئات من العسكريين والمدنيين والذين ما يزالون في قبضة المقاومة، والتي فشلت كافة المحاولات “الإسرائيلية” لتحريرهم، مع ازدياد أعداد وأشكال الاحتجاج من قبل أهالي المحتجزين في تل أبيب.
ربما يتم إضعاف المقاومة، أو إنهاكها والاضرار بسلاحها، ولكنها ستبقي وستخرج من رحم هذه الحرب قوية وباستراتيجية ومنهجية وإعداد جديد، وسوف يكون لها كلمة تقولها وورقة ضغط في المفاوضات، تستطيع أن تُكره “إسرائيل” على قبول بعض ما تطلبه على الأقل، ولن تستطيع “إسرائيل” القضاء عليها، أو إلغاء دورها في المرحلة القادمة، أو ما يسمى اليوم الثاني للحرب.
بالإضافة إلى صناعة “إسرائيل” لأعداء لها تقدر أعدادهم بالملايين من أجيال مختلفة من أهالي غزة وشبابها وأطفالها، سيتكون منهم في المستقبل رافد للمقاومة لا يعرف سوى المقاومة المسلحة حلاً وحيداً لتحرير أرضه.
وبالتالي فإن المقاومة ربما تمرض لكنها لن تموت، وربما تكمن ولكنها حتماً ستعود.
____________________________________
(*) كاتب مصري مهتم بالفكر الإسلامي والسياسة.