محمد صلى الله عليه وسلم أستاذ الإنسانية، ومعلم البشرية، أرسله ربه رحمة للعالمين، وقدوة للناس أجمعين، فمن تبع هداه نجح مسعاه، ومن أعرض وتولى كانت له معيشة ضنكاً، وحشر يوم القيامة أعمى، وفي صدر بعثته صلى الله عليه وسلم أقام بين ظهرانى مشركي مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو فيها الخاصة والعامة من أهل الشرك وعبدة الأوثان، إلى نبذ عبادة الأصنام، والخضوع للواحد الديان، مسمعاً إياهم صوت الحق، هاتفاً في جنبات الوجود؛ (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (العنكبوت: 17).
فلم يجد منهم إلا الصد والإعراض، وليتهم أعرضوا وسكتوا، لكنهم حاربوا الدعوة الوليدة، بكل ما لديهم من قوة، وشنوا على دعوة الحق حروباً عسكرية، واقتصادية، وثقافية، ولم يتركوا سبيلاً لوأد الدعوة الفتية إلا سلكوه.
وتحت مطارق العذاب الشديد، ومقامع الحديد، هاجر فريق من المسلمين إلى الحبشة فراراً بدينهم من بطش أهليهم، ولكن ضربات قريش لم تتوقف، وتواصل البطش والتنكيل، حتى اضطر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى الهجرة إلى المدينة المنورة، فراراً بدينهم.
فور وصوله، شرع النبي عليه الصلاة والسلام في إرساء معالم دولة الإسلام بالمدينة، وكانت على 3 أسس: بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ودستور المدينة.
الأول: بناء المسجد:
ما أن دخل النبي صلى الله عليه وسلم أرض يثرب حتى سارع في بناء المسجد؛ وهو الركيزة الأولى لبناء الفرد المسلم والدولة المسلمة؛ حيث يصنع الفرد المسلم والمجتمع المسلم المنشود قال تعالى: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (التوبة: 108).
يقول د. على الصلابي: أُنشئ المسجد ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم لله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده، وشكره على نعمه عليهم، يدخله كلُّ مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته، ولا يضاره أحد ما دام حافظاً لقداسته، ومؤدياً حق حرمته.
كما أُنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، والوافدين عليه طلباً للهداية، ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.
وقد أُنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية التي حثَّ القرآن الكريم على النظر فيها، ليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهداً يؤمه طلاب العلم من كل صوب ليتفقهوا في الدين، ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلا بعد جيل.
فكان المسجد نقطة الانطلاق الكبري لبناء الفرد المسلم عقدياً وثقافياً وخلقياً، والفرد هو اللبنة الأولى والخطير في مسيرة بناء الأمم والدول، فإذا صلح الفرد صلحت الأمة ووجدت كل أسباب النجاح، لتتبوأ الأمة مكان الريادة بين الأمم والعلو على سائر الدول.
الثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
الأساس الثاني لبناء دولة الإسلام في المدينة هو بناء مجتمع قوى مترابط متكافل، فكان نموذجاً للتكافل والترابط والحب والإيثار لم تعرف له الأمم مثيلاً، قال الله تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر).
فكانت عفة المهاجرين تنافس إيثار الأنصار، ويتسابق الأنصار في توفير كل سبل الدعم المعنوي والمادي للمهاجرين، فكان المجتمع النموذج لكل المصلحين عبر التاريخ، الذي لا تنتهي فيه قصص الحب والإيثار على النفس مهما كان بهم من خصاصة، وكان هذا الحب، وكانت تلك المؤاخاة هي السبيل لمجتمع قوي مترابط متحاب.
الثالث: دستور المدينة:
اعتبر الإسلام الناس جميعاً أمة واحدة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) (النساء: 1).
لكن البشرية لم تعرف مبدأ المواطنة إلا في عام 1648م في معاهدة «وستفاليا» بعد حرب الثلاثين عاما في ألمانيا، وكان الإسلام قد سبقهم بأكثر من ألف عام، وفي سبيل إقرار مبدأ المواطنة والعيش المشترك بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة من اليهود وعبدة الأوثان ومختلف الأديان، حقق الإسلام سبقاً حضارياً لأول مرة في تاريخ الإنسانية، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم دستور المدينة.
هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين طوائف المدينة من المسلمين وغير المسلمين، من اليهود وعباد الأوثان وكل سكان المدينة دون استثناء، وأنهم أمة واحدة على من بغى عليهم، وأن عليهم الوقوف صفاً واحداً في وجه أي عدوان خارجي يهدد المدينة، وفي نفس الوقت كفل الدستور حرية الاعتقاد، وكفل لغير المسلمين من اليهود وغيرهم حرية ممارسة شعائر دينهم.