بررت العديد من الدول العربية تطبيعها مع الكيان الصهيوني بأنه إسهام في وقف مساعي ضم الأراضي الفلسطينية، وهذا مبرر قد ثبت بطلانه بالتأكيد؛ لأن اتفاقيات التطبيع التي تمت لا تشمل أي عبارات لها علاقة بوقف ضم وبسط السيادة الصهيونية على أي أرض في الضفة الغربية، كما أن هذا الادعاء نسفته الممارسات الصهيونية التي رسمت مسارات استيطانية جديدة في فلسطين وخاصة الصفة الغربية.
يعتبر التطبيع مع العدو الصهيوني سوء إدراك عربي تجاه عقيدة الاحتلال الصهيوني الذي يسعى للتأثير على الأنظمة العربية المطبعة، من خلال جرها لمنظومة التعايش السلمي، وإسقاط الإدراك السلبي تجاه الاحتلال والاستعمار والاستيطان، وتعزيز فكرة التقبل اليهودي الصهيوني في المنطقة، وهي سياسة تنجم عن سوء إدراك لعقيدة الاستعمار والاستيطان الصهيوني التي من شأنها أن تجعل التطبيع سياسة مقبولة ممارسة ونفوذاً وتغلغلاً.
تقليص الدور العربي
لقد أعلن المطبعون العرب تماهيهم مع دولة الكيان سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتساوقوا مع أفكاره الرامية لإلغاء فكرة الوطن الفلسطيني والقضية العربية ونسيان مظلومية الشعب الفلسطيني؛ الأمر الذي فسح المجال أمام الصهاينة واليهود للخوض بأريحية في معركة الديمغرافيا وما ينتج عنها من سلوكيات وقرارات عنصرية متطرفة جائرة، واستغلت دولة الكيان الانقسام الفلسطيني أفضل استغلال لإضعاف الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، وإفقار عدالة قضيته دولياً، وراكمت من سياسات التطبيع لتقليص الدور العربي في القضية الفلسطينية واعتبارها قضية فلسطينية خالصة لتكريس هامشيتها وانتفاء صفتها العربية، من أجل إذكاء عقيدة الاستعمار الاستيطاني فيها بموافقة عربية لا ترى في فلسطين قضية العرب والمسلمين.
نسف السردية الفلسطينية
ترى دولة الكيان في التطبيع فرصة كبيرة في تحقيق أهدافها الحيوية من خلال، إدماج نفسها في المنطقة وتلبية احتياجاتها الاقتصادية من النفط والغاز والمعادن ومصادر المياه، وفك عزلتها وإسقاط الصفة الاستعمارية، وكل المسؤوليات الأخلاقية والقانونية حول النكبة عنها، وتعزيز النظر إلى الاستعمار الاستيطاني الاحتلالي الإحلالي على أنه مجرد تصحيح تاريخي، وإسقاط كل مسؤولياتها في قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وإبادتهم على مر السنوات السابقة.
ويأتي التطبيع في جولاته المتكررة كإحدى أهم وأخطر الأدوات التي أحدثت وتحدث شرخاً عميقاً في مسارات الصراع العربي الصهيوني وبنيته السياسية، إذ يبدو من الوهلة الأولى أن المعطيات والمؤشرات الأخيرة لمسارات التطبيع المختلفة في المنطقة ستؤدي إلى تحولات جوهرية كبرى داخل الدوائر العربية الفلسطينية الصهيونية، ولربما تسهم في تحجيم الصراع من صراع عربي صهيوني إلى صراع فلسطيني صهيوني، مع التوجه نحو بناء علاقات تطبيعية عربية صهيونية لا ترتبط بمسار التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وبذلك يكون التطبيع قد قدم فرصة لا مثيل لها لدولة الكيان للانفراد بالشعب الفلسطيني ومحاصرته، وساهم في توجيه ضربة قاصمة للعمل العربي المشترك حول الصراع، وتحييد العديد من الأطراف العربية الفاعلة للتفرد بالقضية الفلسطينية، وتعزيز فكرة شطب القضية الفلسطينية من ذاكرة العرب، وإذكاء عقيدة الاحتلال والاستعمار، وفرض سياسة الأمر الواقع التي إن لم تكن من خلال التطبيع فستكون بوسائل أخرى تمارسها الولايات المتحدة لا تحبذها الأطراف العربية.
أي أن التطبيع مصلحة أمريكية خالصة لاعتبارات إستراتيجية، تجعلها في وضع يتيح لها قدرة أكبر للتأثير على العالم، ويحقق لها إعادة ترتيبه من جديد، أو الحيلولة دون إعادة ترتيبه بشكل لا ترضاه، فالعالم العربي بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية هو ليس أكثر من لعبة مربعات (ليغو) تفككه وتعيد تركيبه كما يحلو لها، ودولة الكيان أداتها الأساسية في ذلك.
تعزيز خيار الاستسلام
لقد رسخ التطبيع ثقافة الاستسلام العربي والتسليم بالأمر الواقع، وبأن أوراق القوة والحل في أيدي دولة الكيان وحليفتها الولايات المتحدة؛ وبالتالي فإن التفكير خارج سياق هذه المعادلة أو المسلَّمة في العقل السياسي العربي المسيطر بات ينظر إليه باعتباره سلوكاً متطرفاً، غير واقعي أو عقلاني، كما عزز ثقافة الهزيمة وترجماتها السياسية، التي انعكست على شكل احتلال للوعي الرسمي المهيمن، وأصبحت في حالة تصادم مع الوعي الجمعي الشعبي الذي يؤمن ببدائل المقاومة والممانعة بكل أطيافها، فاحتلال الوعي هذا بقدر ما أفقد الجانب العربي والفلسطيني القدرة على الضغط، واستثمار حالة الممانعة والمقاومة الشعبية الفلسطينية والعربية بصورة فعالة، فإنه من جانب آخر ساهم في تغذية غطرسة الطرف الآخر وعزز لديه ثقافة وسلوك الاستعلاء ورفض القبول حتى بالحد الأدنى الذي هبط إليه سقف مواقف الطرف العربي المهزوم.
وفي ضوء ذلك، عززت دولة الكيان موقفها وقوتها من خلال رفض الاعتراف بالآخر والعمل على إقصائه ونفيه ونفي حقوقه، حتى لا يبقى أمامه سوى خيار الاستسلام والرضوخ المطلق لشروطهم، وتضييق الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين والعرب على خيار واحد ووحيد وهو التفاوض، وإغلاق الأفق أمام خيارات المقاومة والممانعة، والقبول بفكرة التعايش على حساب القضية الفلسطينية وإنهائها.