أستاذي الفاضل د. يحيى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أكتب إليكم بعد أن عجزت أمام حل مشكلتي، التي قد تبدو تقليدية ومتكررة، ولكن وجدت التطرف في الحلين المتاحين وكلاهما به خسائر جمة، أنا شاب ولله الحمد ملتزم أعرف حق والدَيَّ وأحرص كل الحرص على برهما، وكثيراً ما يشيدان بي في ذلك.
الحمد لله نحن ميسورون الحال، فأبي لديه شركة ناجحة، تخرجت بتفوق ومنَّ عليَّ أبي بألا أعمل وأكمل دراستي، ولله الحمد حصلت على الماجستير، ومرة ثانية عرض عليَّ أبي أن أكمل طريقي للدكتوراة، ولكنني أبديت رغبتي في اهتمامي بالبحوث التطبيقية، وقد حصلت على وظيفة بأحد مراكز البحوث منذ حوالي 3 سنوات، وبدأت رحلة البحث عن العروس.
رفضت والدتي من البداية فكرة ارتباطي من خارج دائرة ترشيحاتها! وفعلاً بدأت تعرض عليَّ بعض بنات صديقاتها، ولكنني لم أجد المناسِبة، وقد بلغتُ الثامنة والعشرين وأنا في حاجة للزواج، شاء الله تعالى أن أرى إحدى الفتيات تخرج من بيتنا، وأعجبتني وسألت أختي: من هذه؟ فقالت: إنها أميرة، وكنت أسمع اسمها كثيراً تردده أختي لأنها من أقرب صديقاتها.
بادرتني أختي قائلة: أعجبتك؟ ولم تنتظر ردي واسترسلت: إنها بنت مهذبة على دين ومن أسرة طيبة، والدها موظف بسيط، وأمها تعمل حائكة ملابس، كما أنها عرضت عليَّ التعرف عليها، ولكنها اشترطت أن يتم ذلك وكأنه غير مرتب حتى لا تجرحها إذا لم ترق لي.
في إحدى زيارات أميرة لنا طلبت مني أختي مساعدتهما في مشروع التخرج، وبدأت لقاءاتنا وازداد إعجابي بها، واقترحت أختي أن تكون لقاءاتنا في مكتبة النادي؛ مما أتاح لي الانفراد بالحديث مع أميرة، وتطرق حديثنا إلى النواحي الشخصية، طلبت من أختي أن تعرض عليها رغبتي الزواج منها، هللت أختي فرحاً، ولكنها طلبت مني أن يكون ذلك سراً، ولا نخطر أمنا قبل أن تتأكد من موافقة أميرة.
خلال فترة تعارفي على أميرة في مكتبة الكلية، تناولت معها كل ما كنت أتمناه في زوجتي، وكانت تتميز بالصراحة والوضوح، وأيقنت أن هذه هي الزوجة المناسبة لي، كما أن أختي بصداقتها الطويلة لها -فقد فوجئت أنها كانت معها بالمدرسة الثانوية- أكدت كثيراً من الصفات والقيم التي أحرص عليها متوفرة لديها؛ ما جعلني حقاً لا أتعلق بها، بل أحبها.
وافقت أميرة، وجاءت أختي مهللة تخطرني، ووصفت لي فرحتها وشكرتها أنها رشحتها لي، هرولت أختي إلى أمي: حللت معضلة ابنك! واسترسلت في رواية القصة.
وفوجئت برد فعل أمي العصبي: دون إذني؟ ونادت أمي عليَّ فأسرعت ملبياً، وبادرتني: ما تصرفات المراهقين هذه؟! وكيف يحدث ذلك دون علمي؟!
فقلت: أنا قررت ألا أشغلك قبل أن أتأكد مدى مناسبتها لي، وبمجرد ما تأكدت ووافقت فوراً أخبرنا حضرتك.
قالت: ماذا تعني أنك تأكدت؟ ومنذ متى وأنت تتصرف وحدك؟ وكيف تتخذ قراراً خطيراً مثل هذا دون إذني وموافقتي؟ هل تعلم مصلحتك أكثر مني؟ وحتى أعرفك تصرفاتك الصبيانية، هل تعلم أن والدها موظف صغير؟ سمية أخبرتني بكل ظروفها الاجتماعية، ألم أقل لك: إنك لا تعرف مصلحتك؟ أنت لا تدرك أثر هذه الفجوة الاجتماعية التي بينكما، هل رأيتها؟
قلت: طبعاً!
قالت: واضح أن ذلك كان في الظلام! ثم تابعت حديثها أو بالأحرى أوامرها في عصبية: إنها قصيرة، وليست في مستوى جمال أي فتاة من اللائي رشحتهن لك، أنا لن أقبل أن تكون هذه زوجة ابني وأم أحفادي، ثم توجهت بحديثها إلى سمية: كما بدأتِ هذا الكلام الفارغ أنهيه، وصاحبتك بالكلية لا أراها هنا حتى لا تشغل أخاك.
خافت سمية على أمي لأنها مريضة بالضغط والسكري وبادرت بالموافقة على أوامرها.
حاولت التحدث إلى أمي، ولكنها اعتبرتني مضطرباً، ورقتني ودعت لي وأوصتني بالأذكار حتى أعود طبيعياً!
كلمت أبي فهو أكثر مرونة من أمي، ولكنه أكد لي أنني لا أعرف مصلحتي! وأمي هي التي ربتني وتعرفني جيداً، كما أنها بحكم تربيتها لأخواتي تعرف البنات أحسن مني، لذا فاختيارها هو الأنسب لي، ولكنه أكد أن القرار قراري فقط فيما تعرضه عليَّ أمي، كما أن أبي هددني بأنني إذا تتبعت الشيطان وعصيتهما، فسيغضبان عليَّ وسأتولى زواجي بمفردي وعليَّ أن أغادر البيت.
سارعت سمية بالاعتذار لأميرة، وحاولت تضميد جراحي، وأن لها صديقات كثراً ستعرضهن على أمي أولاً، وما ترشحه سأختار منهن!
انكفأت على همومي، وحاولت أنسى أميرة بالانشغال في عملي، وأوهمت نفسي بما نصحني به أبي، ومرت 6 أشهر وبدا لي رغم عمق الجرح أني نسيت أميرة، غمرتني أمي بالثناء عليَّ وبري بها، وقلما يمر أسبوع دون أن تعرض عليَّ إحدى البنات، فكنت أعتذر.
أخبرني المدير بأن المركز وافق على تدريب مجموعة من الخريجين، وأن حصة القسم الذي أرؤسه 4 خريجين، وحدد موعداً للقائي بهم في مكتبه، كم كانت صدمتي وفرحتي برؤيتها، نعم إنها أميرة، حاولت أن أبدو طبيعياً، واعتذرت بأن والدتي متعبة، وطلبت الاجتماع بكل متدرب على حدة، بادرتني أميرة: لماذا؟ لماذا نقضت عهودك؟ لم أخدعك وسمية تعرف كل شيء عني، نسيت وعيد أمي ونصيحة أو تهديد أبي وقلت لها معتذراً: سأصلح خطئي.
عدت إلى البيت وأنا مشتَّت بين معصية والدَيَّ وحبي، وبرهما وفقدان من رقَّ لها قلبي واقتنع بها عقلي لتكون زوجتي.
أستاذي، أنا في حيرة من أمري، والدَيَّ من قراء مجلتكم الموقرة، كيف أتصرف؟
التحليل
حق الوالدين
نظراً لأهمية وقيمة البر والإحسان للوالدين، تبع الله سبحانه وتعالى الأمر بعبوديته وحده لا شريك له بالإحسان للوالدين؛ (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (النساء: 36)، كما فرض على الوالدين الإحسان لأولادهما بحسن تربيتهم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6).
إن من سمات التربية الناجحة قدرة الأولاد على إدارة حياتهم واتخاذ القرارات المناسبة لهم، بناء على القيم الإسلامية التي تربوا عليها في طفولتهم وتمثلوها في والديهم فأحبوها وأصبحت من سجيتهم، أما في الصبا مع نمو العقل السببي/التعليلي حيث يكون محور اهتمام الطفل «لماذا؟»، يجب أن يحرص الوالدان على بناء القناعات الدينية مثل أدلة وجود الله الذي أحبه في طفولته لأنه.. ولماذا يجب عليه أن يكون صادقاً، أميناً.. وهنا تبدأ شخصيته بالتشكيل ويكون له رأي موضوعي ذو قيمة بناء على عدد من الاستدلالات المنطقية المتتالية، ويكون قادراً على تحمل المسؤوليات المناسبة لإدراكاته.
كما يجب على الوالدين متابعة تنمية المعارف والمهارات والقدرات الحياتية دون التركيز فقط على البرامج التعليمية، فتتسع دائرة المسؤوليات، حتى إذا ما بلغ التكليف الشرعي يكون والداه قد أدَّيا أمانة تربيته ويكون قادراً على تحمل مسؤولياته، ويكون رأي والديه استشارياً.
لقد قاد أسامة بن زيد جيش المسلمين وبه بعض من كبار الصحابة وعمره حوالي 16 – 19 عاماً، المعضلة في مشرقنا العربي في اعتماد الأولاد بصفة عامة على والديهم مادياً إلى أن ينتهوا من المرحلة الجامعية، ولا يتم الفصل عادة بين الاعتمادية المادية والاعتمادية المعنوية؛ لذا نرى من يرسم المسيرة التعليمية، بل والمهنية لولده ويقرر من يتزوج وكذلك من يرى أن من حقه إدارة الحياة الزوجية لولده! التعليل: «أنت لا تعلم مصلحتك»، إن كان تقييم الوالدين صحيحاً فهذا اعتراف بفشلهما في تربية ولدهما.
المعضلة التي يواجهها الأبناء أنه إذا ما حاولوا اتخاذ قرار يتعارض مع رأي والديهم يتم اتهامهم بالعقوق!
دور للوالدين في زواج الابن
دور الوالدين في زواج ابنهما استشاري والنصح فقط فيما يخص الفتاة وعائلتها من حيث الدين والأخلاق والعادات والطبقة الاجتماعية والاتفاقات المالية إن كان الابن هو الذي سيتحملها، أما إذا كان والداه سيساعدانه بشيء ما فيوضحان له دون إملاء شروطهما، لا يحق للوالدين إبداء الرأي في شكل العروس، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا نظر إليها سرَّته»، سرَّت الخاطب وليست أمه! أو كيفية العلاقة بين الابن وخطيبته ما دامت داخل نطاق الضوابط الشرعية.
دور للوالدين في زواج الابنة
ولي المرأة مسؤول أن يتأكد من دين وخلق وكفاءة الخاطب، ثم يعرض الأمر على الفتاة ولها الخيار، ولا يحق له إجبارها مهما كان الخاطب مناسباً من وجهة نظره، كما أن من حق الفتاة إذا تقدم لها من تراه مناسباً ورفض وليّها أن ترفع الأمر للقاضي (ولي المسلمين)، فإن رضي القاضي بدينه وخلقه وكفاءته زوَّجها له.
عن علي بن أبي طالب قال: «رحم الله والدين أعانا ولدهما على برهما»، والمعنى المقصود بذلك -والله أعلم- أن يحسن الوالد إلى ولده ولا يكلفه ما لا يطيق، ولم يحمله على العقوق بسوء عمله.
وأنا أرى -والله أعلم- حتى لو ابني اختار من ليست على الالتزام الديني المطلوب، ألَّا أقاطعه فيقطعني وأكون بجانبه دائم النصح محاولاً تقليل الآثار السلبية لاختياره الخاطئ، بل أدعمه في هداية زوجته وأكون عوناً له على الشيطان.
إن زواج الأولاد من أجمل المناسبات العائلية، عندما يرى الوالدان ثمارهما وقد أينعت ودارت عجلة الحياة، وكذلك بالنسبة للأولاد يعتبر الزواج من أهم الأحداث التي تؤثر في حياة الإنسان؛ لذا يجب على الوالدين ألَّا يضيعا هذه المناسبة الجميلة وأن يتخليا عن نموذج الزواج الذي يريانه مناسباً لأولادهما، وإنما يتوافقان على النموذج الذي يراه ابنهما دون الإخلال بالضوابط الشرعية.
كم من المشكلات عرضت عليَّ بسبب تدخل الأهل في حياة أولادهم الزوجية! ويكونون سبباً في فشل زواجهم حتى وإن استمر، وذلك بسبب الحب المرَضي والحرص على مصلحة الأولاد أو الفهم الخاطئ لمعنى بر الأولاد؛ مما يجعلهم يتخطون خصوصيتهم.
إلى صاحب الرسالة
– اجتهد بالدعاء وتقرب إلى الله تعالى بقيام الليل والصدقات بنية أن يفرج الله كربتك ويوفقك إلى أن تكون باراً بوالديك، وأن تتزوج من ترى أنها صالحة لك.
– استخر.
– بر والديك معنوياً ومادياً تعبداً لله تعالى، وتذكر دائماً فضلهما عليك.
– حاول وابذل مع كل من والدتك ووالدك، وابدأ من تعرف أنه أكثر ليناً، وبيِّن أن القرار قرارهما، وأنك لن تخالف أمرهما، وأنك تتمنى موافقتهما لأن هذا سيسعدك، وبيِّن ميزات أميرة، إن لم توفق فعليك بالخطوة التالية:
– استشر خالك/خالتك/عمك/عمتك من هي/هو أقرب لوالديك، وقد تكون إحدى صديقات والدتك أو أحد أصدقاء والدك لإقناع والديك بوجهة نظرك، وأن تكون النصيحة منهم لوالديك بالموافقة حتى لا يدفعاك للزواج بدونهما، فإن فشلت محاولتهم، فاتفق مع عمك أو خالك أو .. على أن يصحبك في رحلة زواجك.
– قابل أي رد فعل مهما كان بكل أدب وتقدير واحترام، وتذكر أنه قد جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: «أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: «ثُمَّ أبُوكَ» (رواه أبو هريرة، المحدث: البخاري، 5971).
______________________
Y3thman1@hotmail.com
+14169973277