في زيارته لإندونيسيا وتايلاند وماليزيا، أعلن شيخ الأزهر د. أحمد الطيب، في 10 يوليو 2024م، أن أمنيته «ترك منصب شيخ الأزهر والجلوس على حصيرة يحفّظ القرآن الكريم للأطفال، ويتمنى أن يحقق الله له هذه الأمنية قبل أن يموت».
فما قيمة هذه الأمنية في ضوء رسالة الأزهر؟ وما قدرها ووجاهتها في ضوء الواقع المعاصر الذي تمر به الأمة؟ وما مدى صوابية هذه الأمنية بالنظر إلى الكيد للإسلام في الداخل والخارج معاً؟ هذا يقتضي أن نتحدث عن رسالة الأزهر، وبيان واقعنا اليوم، ثم الحديث عن هذه الأمنية!
رسالة الأزهر الشريف
أنشئ الجامع الأزهر على يد جوهر الصقلي، قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، في 24 جمادى الأولى 359هـ/ 4 أبريل 970م؛ أي بعد عام من تأسيس مدينة القاهرة، واستغرق بناؤه ما يقرب من 27 شهرًا، حيث افتُتِح للصلاة في يوم الجمعة 7 رمضان 361هـ/ 21 يونيو 972م، وما لبث أن تحول إلى جامعة علمية، وأُطلق عليه اسم الجامع الأزهر.
تحدث الشيخ محمد عرفة، عضو جماعة كبار العلماء في وقته، عن رسالة الأزهر ومكانته في كتابه «رسالة الأزهر في القرن العشرين»، قال عن الأزهر: إنه «من العالم الإسلامي كالقلب من الجسد، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، فهو ليس للمصريين وحدهم، بل لأمم الإسلام جميعاً، فمن قتله فكأنما قتل أمم الإسلام جميعاً، ومن أحياه فكأنما أحيا أمم الإسلام جميعاً».
ووضح رسالة الأزهر بأنها «فهم الإسلام على وجهه، وتفهيم المسلمين إياه على وجهه، وإحياء أمم الشرق بإحياء الأخلاق، وذلك بإحياء الدين وعمارة نفوسهم باليقين، وإصلاح الأسر الإسلامية، وصياغة المعاملات الإسلامية على وجه ينفق مع النظريات الاقتصادية ولا يخالف روح الدين، وصبغ الروح الإسلامية بالروح الاستقلالية، وبعث العقول من مرقدها، وربط حديث الأمم بقديمها».
ثم يقول موجهاً خطابه للأزهرين كي يقوموا بهذه الرسالة: «إنه لا يضطلع بهذا الأمر العظيم إلا كل رجل عظيم، إنه يحتاج إلى الصبر، فاصبروا أيها الأزهريون كما صبر أولو العزم من الرسل، ويحتاج إلى إرادة قوية فصبوا في إرادتكم عنصر الحديد، ويحتاج إلى التجرد من الشهوات الدنيئة والمطامع الفانية، والكراهية للجاه الزائف، والشرف الباطل، فكونوا سماويين علويين أطهاراً أبراراً روحانيين، أجسادهم في الأرض ونفوسهم في السماء، بل كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون».
ثم وضع شروطاً كي يقوم الأزهر والأزهريون بهذه الرسالة فقال (ص 16): «إن الأزهر لا يؤدي رسالته إلا إذا وثقت الأمة به، ولن تثق الأمة به إلا إذا رأت منه بُعداً عن المادية، وصرامة في الحق، وجرأة على إبداء الرأي، وتحملاً للأذى في سبيل حماية الدين، بهذا وبهذا وحده تضع الأمة فيه ثقتها، فيحملها على الأخلاق الفاضلة، والشيم العالية، ويسير بها قُدُماً إلى العزة القعساء والشرف الرفيع». ا.هـ.
وفي كتابه «من شيخ أزهري إلى شيخ الأزهر: الأزهر إلى أين؟»، أورد د. عبد الودود شلبي ذكر انعقاد «ملتقى الفكر الإسلامي» الذي تقيمه وزارة الأوقاف، فقال متحسراً على تردي مستوى القضايا التي يتناولها، ثم يتساءل قائلاً (ص 132-133 من كتابه): «أين القضايا التي تهم الوطن.. والمواطن؟ وقضايا الفكر التي تهز أركان العالم؟ وموقف المسلم المعاصر في مواجهة التطورات التي تسابق الزمن؟ وقضايا الشباب الذي يتساقط كأوراق الشجر؟ وقضايا الفتن والمحن التي يمر بها المسلمون في جميع أنحاء العالم؟ وقضايا الغلو والتطرف؟ وقضايا الحرية والعدل؟ وقضايا التعليم والتربية؟ وقضايا الخلافات المذهبية والفكر؟ وقضايا الدعاة والدعوة؟ وقضايا التخلف والفرقة؟ بل أين كان هذا «الملتقى الإسلامي» من عبدة الشيطان الذين ظهروا على مسرح الحياة فجأة.. وفي شهر رمضان المبارك.. وفي القاهرة المحروسة.. وفي مصر أم الدنيا؟!». ا.هـ.
وهذه الاهتمامات الغائبة عن ملتقى وزارة الأوقاف هي –في نظر شلبي– من صميم رسالة الأزهر وواجباته الشرعية.
أما الإمام يوسف القرضاوي فقد ألَّف رسالة بعنوان «رسالة الأزهر بين الأمس واليوم والغد»، ومما جاء فيها قوله بعد حديثه عن دوره العلمي والتعليمي، والتربوي والتوجيهي (ص 34-35): «كان الجامع الأزهر برلمان الأُمَّة، وكان علماؤه نوابها الَّذين لا يبتغون جاهًا، ولا يتناولون أجرًا، كان قولُه الفصلَ، وحكمُه هو العدلَ، ورأيُه هو المسموعَ، وأمرُه هو المطاع، يولِّي الملوكَ، ويعزل الأمراءَ، ويضعُ التِّيجان على رؤوس من شاء، ويُسقطها عمَّن أراد، وهو في المُلْكِ زاهد، وعن الإمارة راغب، وحسْبه أنَّه اختار لنفسه أن يكون الموجِّه والمراقب والمشير، على حدِّ قول أبي الأسود الدؤلي: الملوك حُكَّام على الناس، والعلماءُ حُكَّام على الملوك، وهو ما نظمه الشاعر فقال:
إنَّ الْأَكَابِرَ يَحْكُمُونَ عَلَى الْوَرَى وَعَلَى الْأَكَابِرِ يَحْكُمُ الْعُلَمَاءُ!
وكان الأزهر مُوقدَ الثوراتِ الشعبيَّة ومُغَذِّيها، وقائدها ضدّ كلِّ استعمارٍ من الخارج، أو ظلمٍ من الداخل، وما زال التاريخ يسطِّر بحروفٍ من نورٍ موقفَ علماء الأزهر من الحملة الفرنسيَّة، ومن ظلم بعض الولاة العثمانيِّين، ومن طغيان بعض المماليك» ا.هـ.
ثم يرى أن دور الأزهر اليوم يتلخص في أنه مصنع الدعاة إلى الله، وأنه حامل رسالة الإصلاح وتوجيه المجتمع، وأن عليه واجب الدعوة والتوجيه، وتنوير العامة، وتوجيه الخاصة، وترشيد الصحوة، وأن عليه واجباً نحو العالم الإسلامي، وواجبا نحو هداية العالم.
هذه المكانة العظيمة والرسالة الجليلة هي التي جعلت فقيهاً كبيراً ومحدثاً جليلاً كابن حجر الهيتمي يقول: «ليس على وجه الأرض بقعة جمعت من علماء الأرض وصلحائها والجهد في طلب العلم وتعلمه وتعليمه، والدأب في ذلك الليل والنهار مثلُه؛ بحيث أجمعوا على أنه لم يقع منذ أزمان وإلى الآن أنه خلا من علم أو ذكر ساعة من ليل أو نهار».
الأزهر اليوم
لا شك أن الأزهر اليوم يعاني معاناة واضحة، ويشهد تراجعاً ملحوظاً في أداء دوره والقيام برسالته، وهذا يعتبر امتداداً للسياسات التي اتُّبعت معه فيما بعد يوليو 1952م؛ حيث تأميم ممتلكاته، وتبعيته للحكومة، وإخضاع علمائه، وأصبح الأزهر في هذه الفترة بشكل كامل ذراعاً للحكومة، ثم استُخدم لتبرير تصرفاتها؛ فالأزهر الآن لا يمكنه معارضة الباطل ومقاومة الانحراف بعد أن أصبح مؤسسة وطنية حكومية رسمية، إلا في مسائل فرعية فقهية، ولم يعد قادراً على أن يكون كما كان في حريته واستقلاله وثوراته ومقاومته، حتى إننا اليوم في أحداث «طوفان الأقصى» لم نر منه إلا بيانات، والأمر يحتاج لمواقف وتحرك إذا أردنا أن يتسق الأزهر مع دوره التاريخي.
أصبح الأزهر اليوم يعاني من تقييد وتكبيل، ومن الاكتفاء بالقول عن الفعل، وعدم اتخاذ المواقف المتسقة مع تاريخه وعلمائه ومشايخه عبر التاريخ، فمن صحن الأزهر الشريف انطلقت الثورات، بمشاركة طلابه وعلمائه ومشايخه على السواء، ومن فوق منابره وقبابه وُجهت ورُشدت مواقفه المباركة وحراكه المقدور، وفي رحابه مد مشايخ الأزهر أرجلهم ولم يمدوا أيديهم لحاكم أو ملك، وتكسرت على صخرته الصماء ومآذنه الشماء أطماع الغزاة والمستعمرين، وكان له في كل صدر وورد وفي كل أمر ونهي سواء داخل مصر أو خارجها وقائعه المعهودة، ومواقفه المشهودة.
حول أمنية شيخ الأزهر أحمد الطيب
بناء على ما سبق من أقوال لأعلام الأزهر في بيان رسالته، وما أوردناه من مواقف على مر التاريخ، فإنه يمكننا القول: إن أمنية شيخ الأزهر –رغم مواقفه الجيدة من فلسطين وقضايا العالم الإسلامي- لا تتسق مع هذه الرسالة الجليلة، أو ربما كانت مقصورة على جانب خافت وجزئي يمكن أن يقوم به غير الأزهر وغير الأزهريين وغير شيخ الأزهر بمقامه الرفيع ومنصبه المنيع، فتحفيظ القرآن يقوم به كل من أتقن تلاوة القرآن وقرأه على أهله، أما علماء الأزهر، وشيخ الأزهر فليس مكانه على الحصير، وإنما مكانته ومهمته إظهار حقائق الدين ومقاصد الإسلام، ومواجهة الحملات ضد الأسرة والفطرة، والوقوف ضد الهجوم المنظم على القرآن والسُّنة، وتمييع ثوابت الملة، وأن يجاهد في سبيل إرساء قيم العدل والحق والحرية والدفاع عنها؛ علماً وعملاً.
إن مكان شيخ الأزهر يجب أن يكون في مقدمة الصفوف؛ لتشكيل الرأي العام، وقيادة الأمة في أزمنة الضعف وأوقات الهوان، وإيقاظ النائمين وتنبيه الغافلين، ونصرة المستضعفين في كل مكان، ووقف عدوان المعتدين وظلم الظالمين واستبداد المستبدين.
إن أمنية شيخ الأزهر يجب أن تكون نصرة المظلوم ضد الظالم، ومؤازرة المجاهدين ضد المنافقين والمثبطين والمرجفين، ومساندة المقاومين ضد المحتلين.
إن مكان شيخ الأزهر وعلماء الأزهر وجهود علماء الشريعة يجب أن تكون لفك الحصار عن المحاصرين، وليس الجلوس على الحصير!