عاشت دول الخلافة قرونًا طويلة، ورغم الصراعات بين المسلمين، فإنه قد بقيت الخلافة رمزًا للنظام السياسي الإسلامي.
ولم تكن دول الخلافة مثالية عادلة راشدة على طول أعمارها، لكنها رغم ذلك كانت -في الغالب- حامية للمسلمين من الأعداء المتربصين بهم الدوائر.
ولما أُسقطت الخلافة العثمانية منذ مائة عام دخل المسلمون في مرحلة التيه، وظهرت أصوات تشكِّك في البدهيات والثوابت، مثلما حدث من عليِّ عبدالرازق وضربائه.
وأثَّرت الصدمة على كثير من المفكرين المخلصين، ولما رأوا طول فترة السقوط، وعدم القدرة على التأسيس لدولة جامعة للمسلمين، وتنكيل الغرب بكل من خرج عن نهجهم، أو حاول أن ينتمي للشعوب المسلمة ودينهم وشريعتهم، فخرج من بينهم من يقول: الإسلام لم يدْعُ لقيام دولة له.
ومن قائل: الهجرة لم تكن لإقامة الدولة؛ إذ لم يأت الحديث عن ذلك في قرآن أو سُنة، بل كانت طلبًا للحرية المفقودة في مكة.
وقراءة هذه الأقوال مفهوم في ظل حالة اليأس المخيِّمة على عالمنا الإسلامي، وعدم قدرته على النهوض، لكنها تبرير للواقع المرير، أو محاولة للتخلُّص من تبعات الدعوة لقيام خلافة جامعة تحت أي صورة من الصور أو شكل من الأشكال؛ لما جرَّ ذلك على أصحابها من ويلات داخلية وخارجية.
لكن الدولة في العموم فضلاً عن الإسلام هي أمر بدهي لا يحتاج لنص قرآني أو نبوي أو أثري للدعوة لقيامها وإنشائها، وقد لاحظتُ أن الإسلام لا يتكلم في البدهيات لعلم المخاطب بها؛ فمثلاً لم يتكلم الإسلام عن رعاية الآباء للأبناء لأنه أمر فطري جبلِّي، وإنما تكلم عن بر الأبناء بالآباء؛ لقلة اهتمام الأبناء بالآباء عند كبرهم وانشغالهم بخاصة أنفسهم.
وكذا الحال مع الدولة؛ فهي لبداهتها لم يتكلم عنها الإسلام، وإنما تكلم عن مقوماتها من العدل وإقامة الشرع.. إلخ، فمجرد الاجتماع البشري يحتاج من ينظِّم هذا الاجتماع ويضبطه، ويكون أقوى منهم جميعًا، قادرًا على تنفيذ أمره وحكمه عن طريق أعوان له.
وهذا كله ينطبق على الرسول محمد ﷺ؛ فهو قد جمع مع النبوة الرئاسة، والمراجع لبيعتي العقبة الأولى والثانية يجد التأكيد على السمع والطاعة والمناصرة، وأنه القادر على تنفيذ العقوبة في الحدود؛ ففي الحديث: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهْوَ لَهُ كَفَّارَةٌ»(1).
فهنا المواطن الذي سرق أو زنى ووصل أمره إلى الحاكم -وهو النبي ﷺ- فإنه يحكم فيه بشرع الله وحكمه؛ فالمواطن المذنب يعترف أو يدل عليه الشهود، والنبي الحاكم يحكم بقانون السماء، والمنفذون هم الأتباع، والشهود على ذلك هم بقية المجتمع.
أليست هذه بيعة دينية ودنيوية في آن واحد؟
وفي البيعة الثانية أخذ عليهم أن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم(2)، فقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا -يَعْنِي: الْعُهُودَ- فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ، وَتَدَعَنَا؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ، أَنَا مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ»(3).
فهل التحالفات والمعاهدات من أعمال الدعوات أم من أعمال الدول؟
وقد مهَّدت الدعوة للدولة في المدينة عن طريق سفير رسول الله ﷺ مصعب بن عمير، والسفارة من أعمال السياسة؛ فاجتمعت فيه الدعوة والسياسة.
ولما دخل الرسول ﷺ المدينة وضع دستورها متمثلاً في الصحيفة، وهي من أعمال الدولة، ودخل الجميع تحت حكم رسول الله ﷺ؛ العرب مسلمهم ومنافقهم ومشركهم واليهود، وقد قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105).
وقد كره عبدالله بن أُبيِّ بن سلول رسول الله ﷺ كرهًا شديدًا، وظهر ذلك في أفعاله ومقالاته، وقد قال سعد بن عبادة معللاً هذا البغض: لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك وَإِنّا لَنَنْظِمُ لَهُ الْخَرَزَ لِنُتَوّجَهُ، فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيَرَى أَنْ قَدْ سَلَبْته مُلْكًا(4)، فهذه الرواية في كون أن الرسول ﷺ جمع مع الرسالة الرياسة.
والنبي ﷺ في رئاسته في دولته كان له وزراء وأمراء ونقباء وعرفاء وسفراء بينه وبين الملوك وكتبة للرسائل.. إلخ، فوزيراه أبو بكر، وعمر(5)، ومن أمرائه زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد.. إلخ، وكان نقباؤه اثني عشر(6)، وهم الأشراف، وقيل: الأمناء الذين يعرفون طرق أمورهم، وقيل: شهداء القوم وضمناؤهم(7)، وجعل للأنصار عرفاء(8)، والعرفاء جمع: عريف، وهو من يلي أمر القوم(9)، وكان له ما يشبه وزير الداخلية أو رئيس الشرطة؛ وهو قَيْس بْن سَعْدٍ(10)، وكان له خاتم الرئاسة ليختم به رسائله للملوك(11)، وكان هذا الخاتم مع خلفائه حتى ضاع من أمير المؤمنين عثمان، وقد طلب الرسول ﷺ القيام بعملية تعبئة وإحصاء في المدينة(12).
ولما اختار رسول الله ﷺ الرفيق الأعلى، كان أول شيء قام به مشيخة القوم أن اجتمعوا لاختيار خليفة لرسول الله ﷺ على هذه الدولة والأمة، وقال أبو بكر للأنصار في السقيفة: «نَحْنُ الأُمَرَاءُ وَأَنْتُمُ الْوُزَرَاءُ»(13).
فالصحابة لم يُنشئوا الدولة بعد النبي ﷺ، بل ورثوا دولة قائمة؛ لذلك تمت تسمية من ولي الأمر بعد الرسول ﷺ خليفة رسول الله ﷺ، وأصبح المنصب يسمى خلافة، وإن تسمى صاحبها بأمير المؤمنين، أو السلطان.. إلخ.
فكل تلك الأعمال السابقة هي أعمال رئاسة، وهي دليل على وجود الدولة، ولا تحتاج لقيامها إلى تنظير أو نص، بل هي أمر بدهي؛ لتطبيق شرع الله، ورعاية مصالح المسلمين، وتبليغ الدعوة إلى العالمين.
ولم تكن الدولة بمعزل عن الدعوة في أي يوم من الأيام، ولما أَفَلت الدولة حاول القوم أن يقنعوا ويرضوا أنفسهم بالدعوة، وأنهم يكفيهم ذلك، لكن الدعوة رئتها الدولة، وبهما معًا يكون الإسلام عزيزًا منيعًا.
___________________________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب: وُفُود الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِمَكَّةَ وَبَيْعَة الْعَقَبَةِ، ح(3892) من حديث عبادة بن الصامت.
(2) انظر: الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك، (2/681) من حديث جابر بن عبد الله.
(3) جزء من حديث أخرجه أحمد في المسند، ح(15798) من حديث كعب بن مالك ، وقال الأرنؤوط: حديث قوي.
(4) سيرة ابن هشام (1/ 588).
(5) انظر الحديث الذي أخرجه الآجري في الشريعة، ح(1326).
(6) انظر: عيون الأثر لابن سيد الناس (1/ 225).
(7) عمدة القاري للعيني (17/33).
(8) انظر: الحديث الذي أخرجه البخاري في الأحكام، باب: الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ، ح(7176).
(9) مقدمة الفتح لابن حجر (1/ 151).
(10) انظر: الحديث الذي أخرجه البخاري في الأحكام، باب: الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ، ح(7155).
(11) انظر: الحديث الذي أخرجه البخاري في اللباس، باب: نَقْشِ الْخَاتَمِ، ح(5872).
(12) انظر: الحديث الذي أخرجه البخاري في الجهاد، باب: كِتَابَةِ الإِمَامِ النَّاسَ، ح(3060).
(13) جزء من حديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، ح(3668).