يعد الاغتراب، وما يخلفه من تساؤلات جدلية ومسائل فقهية، قضية شائكة تحتاج إلى توضيح للحقائق، وضبط للأمور، خاصة إذا كان الاغتراب في بلاد غير إسلامية تحديداً، وحاجة المغترب للزواج مثلاً، وما يترتب على ذلك بشأن التعدد والطلاق والمواريث وتربية الأبناء، وغير ذلك من إشكالات تحتم علينا إطلالة عن قرب على فقه المغتربين.
«المجتمع» التقت أ.د. عبدالمنعم سلطان، رئيس قسم الشريعة بكلية الحقوق- جامعة المنوفية (شمال القاهرة)؛ للتحاور حول الأحكام والقواعد الفقهية التي تهم المغترب والضوابط الشرعية ما بين المباح والمحظور.
إذا مارس المسلم المغترب شعائر دينه بحرية فهي دار سلام
ما ضوابط الاغتراب في الإسلام، خاصة أن هناك من يحرمون الاغتراب في البلاد غير الإسلامية خوفاً على الدين؟
– أباح الإسلام السفر والاغتراب بحثاً عن منافع دنيوية بشرط ألا يؤدي ذلك إلى ضياع الدين، كأن يسافر المسلم إلى بلاد تعلن العداء السافر للإسلام، وهذه الإباحة منطلقة من قول الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15)، وعلى المسلم أن يرصد سلبيات وإيجابيات الاغتراب من المنظور الديني والدنيوي، وهذا التقييم يختلف من إنسان لآخر حسب قوة دينه وقدرته على مواجهة التحديات والإغراءات التي تتعارض مع أوامر الدين، وليكن شعاره: (وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 35)، وقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: 16)، كما أن أمر الإباحة أو المنع مرتبط أيضاً بظروف الراغب في السفر من كونه متزوجاً أو أعزب، وهل لديه زوجة وأولاد يخشى عليهم الفتنة أو الضياع لأن كلاً منا راعٍ ومسؤول عن رعيته.
لكن البعض يحرمون الاستقرار أو حتى السفر إلى دار الكفر حيث قسموا العالم إلى عالمين؛ إسلام، وكفر، فما قولكم؟
– لا بد أن نعلم أنه لا أصل شرعياً ثابتاً بتقسيم العالم إلى دارين؛ دار الإسلام، ودار كفر أو حرب، وهذا ليس كلامي، بل استناداً إلى ما جاء في الكتاب القيم «بيان للناس» الصادر عن الأزهر الشريف، حيث أكد العلماء فيه أن تقسيم بلاد العالم إلى دار كُفْرٍ ودار إسلامٍ أمر اجتهادي من واقع الحال في زمان الأئمة المجتهدين، وليس هناك نص فيه من القرآن الكريم أو السُّنة النبوية.
ما الأسس التي استند إليها هؤلاء المجتهدون في هذا التقسيم الذي على أساسه يتم السماح بالسفر والاغتراب فيه من عدمه؟
– يرى جمهور المجتهدين من العلماء أن الحكم على بلد ما بأنه دار إسلام وسلام أو دار كفر وحرب، هو مدى توافر الأمن على الدين فيه، وحتى لا يساء فهم ذلك، فإنه لو عاش المسلم المغترب في بلد ليس له دين أصلاً، أو يدين أهله بغير الإسلام، فقد يظن المسلم العامي أنها دار كفر وحرب، ولكن الحقيقة أنه لو مارس المسلم فيها شعائر دينه بحرية فهي دار سلام وإسلام، وهذا الرأي قال به الإمام أبو حنيفة ورجحه العلماء المعاصرون ومنهم الشيخ محمد أبو زهرة في رسالته عن «نظرية الحرب في الإسلام»؛ حيث أكد أن فيصل الحكم القضية هو أمن المسلم على دينه، ويرى بعض العلماء أنه بدخول دول العالم المنظمات الدولية وتوقيعها على مواثيق الأمم المتحدة هو بمثابة اعتراف كل دول العالم كلها بأنها دول مسالمة أو معاهِدة وبالتالي ليست دار حرب.
يجوز الزواج بالكتابية إذا استقام حالها، ويرجى دخولها الإسلام
ثار جدل فقهي منذ سنوات عن جواز بقاء المسلمة حديثاً في البلاد غير الإسلامية مع زوجها غير المسلم إذا كانت لها منه أولاد، وتأمل في إسلامه مستقبلاً، فما رأيكم؟
– مع احترامي للقائلين بذلك وأدلتهم، إلا إنني أرفضه لأن من أسلمت وكانت متزوجة من غير مسلم، فإنه يحرم عليها معاشرته، وتمكينه من نفسها باتفاق جمهور العلماء، ولقول الله تعالى: (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (الممتحنة: 10)، أما أولادها فتعرض عليهم الإسلام فإن أسلموا فبها ونعمت، وإن رفضوا فتدعو لهم بالهداية ولا تقطع علاقتها بهم، أو حتى بوالدهم حتى بعد أن تم التفريق بينهما ويعتبران نفسهما غرباء وليسوا أزواجاً.
هل لو أسلم بعد إسلامها بمدة تعود إليه كزوجة؟
– اختلف الفقهاء حتى وصلوا إلى تسعة أقوال جمعها ابن القيم في كتابه «أحكام أهل الذمة»، ورجح قول رأي القائلين بأن لها الخيار بين انتظاره حتى يعلن إسلامه لتعود إليه مستقبلاً كزوجة، واستشهدوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، كزوجة بعد إسلامه.
يفضل للمغترب الزواج بمسلمة بعقد شرعي مكتمل الأركان والشروط
عندما يسافر بعض المبتعثين وغيرهم لبلاد غير إسلامية يقومون الزواج من نسائها بنية الطلاق بحجة أنه يعف نفسه، فما رأيكم؟
– هذا الزواج بنية الطلاق يرى جمهور العلماء أنه مرفوض شرعاً لأنه زواج متعة مؤقت، ولهذا فهو باطل، ومحرم، ويرى بعض العلماء صحته لأن النية قد تتغير مستقبلاً، والعقود -ومنها عقد الزواج- تبطل بما شرط كتابة أو قولاً، لا بما نواه، ولهذا فالعقد صحيح، والإثم على الزوج لنيته التي أضمرها، لو علمت بها المرأة وأولياؤها لرفضوا تزويجه.
تمثل قوانين الأحوال الشخصية في البلاد غير الإسلامية مشكلة في الزواج والطلاق والمواريث والتعدد، فما يفعل المغترب؟
– عليه الالتزام بما جاء في الشريعة الإسلامية، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويحاول دمج نفسه في الأقلية المسلمة، ولا يتزوج بغير المسلمات حتى لا يقع تحت طائلة القوانين غير الإسلامية، فإن فشل في الالتزام بالضوابط الشرعية وخاف على دينه فليعد إلى بلاده، لأن قوانين هذه البلاد مرفوضة شرعاً وتحلل الحرام وتحرم الحلال.
أليست الضرورات تبيح المحظورات؟
– نعم، ولكن الضرورة تقدر بقدرها، وليست كل ضرورة تبيح المحظور، وخاصة فيما يتعلق بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث لأنها أمور وحدود محددة شرعاً، قال تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة: 229).
الزواج من الكتابية لا يخلو من مفاسد دينية وأخلاقية على الزوج والأولاد
إذا أراد المغترب الزواج من البلاد التي يعيش فيها، فما الضوابط الشرعية؟
– الأفضل بلا شك الزواج بمسلمة بعقد شرعي مكتمل الأركان والشروط، فإذا لم يتوافر ذلك يتزوج بكتابية عفيفة يقيناً، لقول الله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (المائدة: 5)، وقال أيضاً: (مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) (النساء: 25).
في ظل الفوضى الجنسية عند غير المسلمين، فهل يجوز الزواج بكتابية استقامت حالها أو هناك أمل في دخولها الإسلام؟
– أجاز بعض العلماء الزواج بالكتابية إذا استقامت حالها، وعفت نفسها أو غلب الظن أنها صارت عفيفة، ويرجى دخولها الإسلام ولم تعلن عداوتها له، وهذا الزواج يجب التأني فيه تماماً لأن عواقب التسرع فيه وخيمة، فالزواج من الكتابية لا يخلو من مفاسد دينية وأخلاقية على الزوج والأولاد
ما الشروط الواجب في عقد الزواج بالكتابية؟
– لا يجوز الزواج إلا بموجب عقد شرعي مستوفى الأركان من وجود المتعاقدين، وولي الأمر، والمهر، وغيرها من الشروط الشرعية، بغير ذلك يكون عقد الزواج باطلاً، والمعاشرة سفاحاً، ولا قيمة شرعية للعقد المدني الوضعي غير الإسلامي؛ لأن الفروج لا تستحل إلا بكلمة الله، والمؤسف أن وصف «الإحصان» معدوم حتى عند الكتابيات إلا من رحم ربي وقليل ما هن، ولهذا الأولى الزواج بالمسلمة حتى وإن وجد الكتابية، فهذا خير له.