عبدالله توفيق كنعان (*)
تستند إسرائيل ( السلطة القائمة بالاحتلال) في سياستها الاستعمارية ونهجها الاحتلالي في الأراضي العربية المحتلة، على سياسة تهويدية استعمارية واحدة تمارس فيها كافة أشكال الاعتداءات والجرائم التي ترفضها وتطالب بمعاقبة مرتكبيها القوانين والشرائع الدولية والأعراف والأخلاق والقيم الإنسانية، واليوم يشهد العالم ومنظماته تصاعد هذه البربرية “الإسرائيلية” التي تشن معها حرب إبادة جماعية في قطاع غزة المحتل، تترافق معه حملة تضييق ضد كل مدن الضفة الغربية، وهي متواصلة دون انقطاع على أهلنا في فلسطين والقدس، حيث يلاحظ أن “إسرائيل” تستند في سياستها الاستعمارية البغيضة على الأكاذيب التاريخية والروايات التلمودية والأساطير المختلقة، والتي تهدف من خلالها إلى تأكيد الاستعمار والإصرار على التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى سعياً لهدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، وتمهد “إسرائيل” إلى هذه السياسة بسلاح خطير هو اقتحامات المستعمرين (المستوطنين) للمسجد الأقصى، وبمشاركة تلاميذ المدارس الدينية وجماعات الهيكل المزعوم والمنظمات المتطرفة التي تزيد عن 80 جماعة ومنظمة متطرفة، وتحت رعاية وحضور من الحاخامات والمتعصبين اليهود بمن فيهم وزراء في حكومة اليمين الحالية من أمثال الوزيرين ( وزير ما يسمى الأمن القومي بن غفير ووزير شؤون النقب والجليل يتسحاك فاسرلوف) وأعضاء الكنيست، وبحماية مكثفة من شرطة الاحتلال بحجة حرية ممارستهم للطقوس التلمودية، إذ بلغ عدد المقتحمين خلال عام 2023م أكثر من 52853 مستوطناً، وفي تطور خطير مؤخراً يشمل زيادة عدد أفواج المقتحمين إلى 200 مقتحم وبواقع ثلاث أفواج دفعة واحدة، مع السماح للمقتحمين المتطرفين أداء طقوس تلمودية منها طقس ( السجود الملحمي).
وتستذكر أمتنا في هذه الأيام إحدى الحلقات المؤلمة من مسلسل الوحشية “الإسرائيلي” ضد أهلنا ومقدساتنا في فلسطين والقدس، وضد أكثر من مليار وثمانمائة مليون مسلم في مختلف أرجاء العالم تمثل القدس ومسجدها الأقصى قبلتهم الأولى ومسرى نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وهي ذكرى إحراق المسجد الأقصى المبارك بتاريخ 21/8/1969م على يد المستوطن المتطرف مايكل دينس روهان، وهو عضو في تنظيم (بيت أي) المتطرف، وقد أسفر هذا الحريق عن دمار كبير في المسجد القبلي وإحراق لمنبر صلاح الدين الأيوبي التاريخي في داخله، ومما يجدر التنبيه إليه أن محاولات حرق المسجد الأقصى المبارك والاعتداء عليه لم تتوقف عند هذه الحادثة الخطيرة فقط، بل تبعتها محاولات أخرى على يد المستوطن (دونال لرز) عام 1974م وهو مدرس في معهد ديني توراتي “إسرائيلي”، وقد كرر محاولته مرة أخرى عام 1978م، يشاركه ثمانية أفراد من عصابة يهودية متطرفة تعرف باسم (منظمة خلاص “إسرائيل”)، والتي يتركز هدفها على تحويل “إسرائيل” إلى دولة توراتية عن طريق هدم مقدسات الغير، وفي عام 1980م اكتشفت متفجرات بالقرب من أحد المعابد وإحدى المدارس الصهيونية اليهودية القريبة من المسجد الأقصى هدفها تفجيره، وفي عام 1982م حاولت عصابة كاخ المتطرفة بزعامة الحاخام مائير كاهانا وبمشاركة ما يعرف بلجنة (أمناء جبل البيت) اقتحام الحرم القدسي الشريف وفي 26/4/2000م تم الكشف عن خفايا هذا بما في ذلك تورط ضباط “إسرائيليين” أيضاً، وحتى أن الحاخام مائير طالب الكنيست بالسماح له بنسف المسجد الأقصى بالقنابل، وفي عام 1984م حاولت عصابة ليفتا تفجير الحرم القدسي الشريف، وتواصلت هذه المحاولات في عام 2000م حيث حذر قائد شرطة القدس” الإسرائيلي” ( يائير يتسحاقي) من احتمالية قيام مستوطن من الجماعات اليمينية بمحاولة نسف المسجد الأقصى.
ولم تكن المقدسات المسيحية بعيدة عن سياسة الحرق ودائرة الخطر والاعتداء عليها أيضاً، حيث تعرضت بتاريخ 7-2-1982م الكنيسة المعمدانية في القدس إلى الحرق، وحرقت مرة أخرى عام 2007م، كما حرقت الكنيسة اليونانية بتاريخ 2-1-1983م.
إضافة إلى هذه المحاولات فقد لجأت الجماعات الدينية الصهيونية المتطرفة إلى الاستفادة من تحيز القضاء “الإسرائيلي” لصالحها في سياق حربها الدينية على المسجد الأقصى المبارك، فمثلاً تقدمت جماعة ما يسمى (أمناء الهيكل) المزعوم بالتماس للمحكمة العليا “الإسرائيلية” بتاريخ 11/1/2000م طالبت فيه وقف أعمال الترميم الإسلامية في المسجد الأقصى.
إن تكرار محاولة حرق المسجد الأقصى المبارك وصدور قرار “إسرائيلي” ببراءة من ثبتت إدانتهم بحرقه، بل وزيادة على ذلك حمايتهم من قبل “إسرائيل”، إضافة إلى ما يتعرض له المسجد الأقصى اليوم من الحفريات حوله وأسفله والاقتحامات المتكررة وبناء الأنفاق والقطارات الهوائية (التلفريك)، ومخطط التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى المبارك، كذلك ما تتعرض له المقدسات المسيحية في فلسطين والقدس من اعتداءات متكررة، جميعها دلائل تؤكد أن التخطيط الصهيوني يقوم على غاية واحدة وهي تهويد مدينة القدس وأرض فلسطين التاريخية والأراضي العربية المحتلة كلها وتهجير أهلها وتفريغها من أجل إحلال المستوطنين مكانهم.
إن اللجنة الملكية لشؤون القدس وبالرغم من الأخطار الكبيرة التي ينبغي مواجهتها والتي يتعرض لها المسجد الأقصى المبارك وجميع المقدسات الإسلامية والمسيحية في كامل أراضي فلسطين والقدس، إلا أنها تُذكر أمتنا بأن ذكرى حريق المسجد الأقصى المبارك كانت سبباً في وحدة مشاعر أمتنا العربية والإسلامية والعمل على إنشاء منظمة التعاون الإسلامي التي نأمل أن يكون لها أدوار فاعلة في الدفاع عن المسجد الأقصى في ظل ما يواجه من أخطار وتحديات، وقد زادت هذه الحادثة المؤلمة من وعي الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي الحر بضرورة توحيد الجهود للدفاع عن فلسطين والقدس، حيث اتخذ مجلس الأمن القرار رقم(271) الصادر بتاريخ 1969م والذي أدان جريمة حرق المسجد الأقصى وطالب “إسرائيل” باحترام الوضع القائم، وتجدر الإشارة الى أن هناك موقفاً “إسرائيلياً” متذمراً ومعارضاً لسياسة الاعتداء على الأقصى واقتحامه وهذا الأمر مرتبط بفتوى حاخامية يهودية بهذا الشأن تحظر المس بقدسية المكان وأبرز المنادين بهذه الفتوى الحاخام السفاردي الأكبر لـ “إسرائيل”، عوفاديا يوسف، وبالطبع الأمر مرتبط بأساطير تلمودية يؤمنون بها، وعلى المستوى السياسي “الإسرائيلي” فقد أظهر رئيس المعارضة “الإسرائيلية” لبيد وزعيم حزب شاس درعي رغبتهما في تقديم صيغة قانون للكنيست يحظر على المستوطنين اقتحام ودخول المسجد الأقصى.
إن اللجنة الملكية لشؤون القدس تنبه الرأي العام العالمي لخطورة السياسات “الإسرائيلية” بما فيها العدوان على غزة ومدن الضفة الغربية والمتواصل منذ أكثر من 318 يوماً وارتقى على أثره أكثر من 40 ألف شهيد و92 الف جريح وآلاف النازحين والأسرى والبيوت المدمرة، كذلك خطورة الاعتداء الممنهج على المقدسات الإسلامية والمسيحية بما في ذلك المسجد الأقصى المبارك بمساحته الكلية (144) دونماً والذي حمل اسمه عنوان حركة النضال ( طوفان الأقصى) للدفاع عن الأرض والإنسان والمقدسات، وتهيب اللجنة بأمتنا العربية والإسلامية دعم الموقف الأردني ممثلاً بتضحيات شعبه وقيادته الهاشمية الذي يقوم بواجبه تجاه الأقصى انطلاقاً من الوصاية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، حيث تم فوراً وبتوجيهات ملكية سامية الإسراع في إعمار المسجد القبلي بعد حادثة حرقه كما تم إعادة بناء منبر صلاح الدين الأيوبي الذي أعيد إلى مكانه بتاريخ 2007م، وما تزال الجهود الأردنية حتى اليوم وستبقى تبذل لحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، كما أن على الأمة والعالم العمل الفوري على دعم صمود الشعب الفلسطيني وإغاثته الإنسانية ووقف العدوان الغاشم الواقع على أهلنا في غزة والضفة الغربية، هذا الدور الأردني التاريخي المساند لحقوق الشعب الفلسطيني والذي يؤكد عليها جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله في كل اللقاءات والمحافل الدولية، كما أن على أمتنا ودول العالم المحبة للسلام الضغط على “إسرائيل” التي تعتقد بأن منطق القوة وشريعة الغاب هو ما يحقق السلام لها علماً أنه لن يجلب سوى الحرب الإقليمية الشاملة وتوسع الصراع وعدم الاستقرار، كما أن على دول العالم مطالبة “إسرائيل” بالإسراع بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، بما فيها حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967م، والتأكيد على وجوب احترام “إسرائيل” للوضع التاريخي القائم ( الاستاتيكو) في مدينة القدس، مدينة السلام التي فقدت السلام منذ احتلالها.
والسؤال الذي يتكرر في ذهن كل أحرار العالم، ألم يحن الوقت بأن تتخذ المنظمات الدولية الشرعية ودول العالم الكبرى والمحبة للسلام الإجراءات الفورية اللازمة لوقف الاعتداءات والعمل على إنهاء الاحتلال الذي يعتبر أطول وأبشع احتلال باق في التاريخ الحديث، حتى يتحقق الأمن والسلام العالمي المنشود وينطفئ الحريق الذي لا زال مشتعلاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أمين عام اللجنة الملكية لشؤون القدس.