سيطرت فكرة التطور على الحضارة الغربية، بحيث لا يتصور الناس شيئاً في الحياة كلها إلا من خلال فكرة التطور، التي امتدت لتشمل كل شيء في حياتهم.
سبب سيطرة فكرة التطور في الحضارة الغربية
يرجع السبب في اعتناق الغربيين فكرة التطور إلى الثبات والجمود الذي سيطر على الحياة كلها في العصور الوسطى في أوروبا، حيث إنهم عانوا من الثبات في حياتهم كثيراً، سواء في الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، فكان كل شيء في الحياة –في مرحلة الجمود- امتداداً لما قبله، لا يقبل التطوير أو التجديد، وكان هذا المفهوم مستمداً من الكنيسة، وظل الأمر كذلك حتى جاء الصدام مع الدين الكنسي، الذي يمثل الثبات والجمود في كل مناحي الحياة، حتى كانت النهاية بتنحية الدين عن الحياة، وعن النظم المختلفة، ولم يسمح للدين إلا أن يكون في ضمير الأفراد، أو في أماكن العبادة، أما الحياة العامة؛ فقد خضعت لقانون التطور، ولا مجال فيها للدين على الإطلاق.
أقوال غربية ترفض فكرة الثبات
تعتمد الحضارة الغربية في التأسيس لفكرة التطور والتغير الدائم على أقوال الفلاسفة والمفكرين الغربيين، الذين حرصوا على إنكار كل ما هو ثابت، بل بالغوا في تمجيد كل ما هو متغير ومتطور، وكان من أوائل من أعلنوا فكرة التطور في الثقافة الغربية الباحث الإنجليزي تشارلز داروين الذي أصدر كتابه «أصل الأنواع» (1859م)، فأحدث ضجة كبيرة، حيث رفضته الكنيسة رفضاً قاطعاً، حيث إن الغرض الذي يدور حوله الكتاب هو: افتراض تطور الحياة في الكائنات العضوية، وتدرجها من الأحط إلى الأرقى، إنه يرى أن الأنواع التي تستطيع التكيف مع البيئة الطبيعية وتصارع الكوارث المفاجئة وتتدرج في سلم الرقي هي التي تستحق أن تبقى وتنمو، في حين تهلك الأنواع التي لم يحالفها الحظ في ذلك، وهي الأنواع الضعيفة.
يقول داروين موضحاً مذهبه: لا يمر بي خلجة من الشك في أن ما كنت أقول به من أن كل نوع من الأنواع قد خلق خلقاً مستقلاً بذاته خطأ محض، وإني لأعتقد تمام الاعتقاد بأن الأنواع دائمة التحول(1)، إنه يقرر نظرية مادية إلحادية(2)، عنوانها التطور الدائم.
ثم جاء برتراند رسل ليعلن دعوته إلى التخلي عن كل ما هو ثابت، والتمسك بالتطور والتغير في كل شيء، فقال: لا نهاية لشؤون الإنسان، وليس ثمة كمال ثابت ولا حكمة لا تَقدم بعدها، فأياً ما تبلغ الحكمة التي وصلنا إليها فهي قليلة بالقياس إلى ما يمكن الوصول إليه، وأي اعتقاد نعتقده، وإن كان مما نظنه بالغ الأهمية، ليس بباق مدى الدهر، ولو تخيلنا أنه يحتوى على الحق الأبدي، فإن المستقبل كفيل بأن يضحك منا(3)، وهكذا تتسابق الأقوال الغربية التي تهدف في مجموعها إلى رفض أي ثبات في هذه الحياة، سواء كان هذا الثبات في دين أو مبدأ أو قانون.
أثر سيادة فكرة التطور على الحضارة الغربية
أصبح الإنسان الغربي في مطلع العصر الحديث لا يطيق تصور الثبات في أي شيء، حيث تحكمت فكرة التطور في كل شيء، فتحلل الناس من كل القيود، وقد صوّر أ. محمد قطب هذه الحالة بقوله: لا شيء ثابت على الإطلاق، لا الدين، ولا الأخلاق، ولا التقاليد، ولا القيم، ولا الأفكار، ولا الحقائق، ولا المعلومات، ولا شكل الحياة، ولا شكل المجتمع، ولا كيان الفرد، ولا علاقات الفرد بالمجتمع، ولا علاقاته مع الدولة، ولا مشاعر الرجل، ولا مشاعر المرأة، ولا أهداف الحياة، بل ينبغي العمل على محاربة «الثبات» بكل وسيلة من وسائل الحرب، كل شيء ينبغي أن يطور بالقوة إذا لم يتطور من تلقاء نفسه، لا شيء ينبغي أن يكون ثابتاً على الإطلاق(4).
إنهم ينكرون الثبات في أي شيء، بل يرون أنه أمر نظري يجب التخلي عنه، وانتشرت الدعوة إلى إسقاط الالتزام المبدئي، وأن يصير الإنسان مع حركة المجتمع، لا يعرف الثوابت، فما هو عملي يجب أن تكون له الغلبة، بل إنهم اعتبروا أن قوانين الحركة والنمو والتطور هي عادات سلوكية للإنسان، وليس في الكون شيء اسمه مصير حقيقي أو ضرورة، بل يوجد فقط انتظام ظاهري(5).
فالعالم -عندهم- لا يخضع لأي صورة من صور الحتمية، بمعنى ألا قوانين تحكم حركة العالم، وظواهر الحياة والمجتمع، والهدف من ذلك إنكار أي ضرورة لها قوانين تكون أساساً لحركة الناس، وهادياً لهم في تغيير واقعهم، فهم لا يعترفون إلا بعالم المادة وحده، بمعنى العالم المحصور داخل نطاق الخبرة الذاتية، فلا علم إلا ما يدركه الإنسان، ولا ثبات إلا للحالة الذهنية الحاضرة، وهنا يرفع الإنسان شعاراً هو أن يختار بناءً على ما يراه واقعاً.
إن الناظر إلى هذه الحالة من المادية الطاغية الناتجة عن التطور في كل شيء يجد أنها لا تتناسب مع حقيقة الإنسان، الذي يحتاج إلى الثبات كما يحتاج إلى التطور، فإذا كان التمسك بالثبات وحده يؤدي إلى الجمود، والتمسك بالتطور وحده يؤدي إلى الانحراف، فهما مرفوضان، والصواب أن نجمع بينهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر، بحيث يظهر الثبات في وجود الإنسان الذي يبقى على حاله إنساناً منذ الولادة إلى الوفاة، فلا يتطور عن الحيوان، وكذلك هذا الإنسان لا بد أن تكون له قيم ومعتقدات ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، أما التطور والتغير فإنه يكون في الوسائل والأدوات التي تساعد في النهوض بالحياة والارتقاء بها لصالح الإنسان.
_________________________
(1) أصل الأنواع: تشارلز داروين، ترجمة: إسماعيل مظهر، ص 122.
(2) تاريخ الفلسفة الحديثة: يوسف كرم، ص 354.
(3) صور من الذاكرة- العقل والمادة: برتراند رسل، ص 256.
(4) التطور والثبات في حياة البشرية: محمد قطب، ص 29.
(5) تاريخ الفلسفة في أمريكا: بيتر كاز، ص 82.