شكل ظهور الحركة الصهيونية نقطة تحول في تاريخ فلسطين؛ لأنها سعت إلى خلق دولة «قومية يهودية» على أرض فلسطين، ولا يمكن تحقيق ذلك الهدف إلا بطرد المسلمين والعرب وتجريدهم من أراضيهم لتفريغ فلسطين من أهلها.
ورافق ذلك تطوير المشروع الصهيوني في نهايات القرن التاسع عشر الذي انتهج جملة من الأساليب والوسائل لتحقيق أهداف الطرد وإنشاء المشروع الإحلالي للسكان، واعتمد ذلك على عدة محاور تنشئ جميعها صورة ذهنية عن الأرض والسكان والقدامى، والمهاجرين القادمين بغرض الاحتلال.
تزامن تطور المشروع الصهيوني الذي اتخذ منحنى تنفيذياً عام 1897م بانعقاد مؤتمر بازل في سويسرا، مع بدايات ظهور السينما؛ الأمر الذي تنبه له الآباء المؤسسون للصهيونية، الذين اتخذوا من السينما آلة دعائية تعبوية يمكنها أن تروج لفكرة إحلال العنصر اليهودي مكان العرب والمسلمين في فلسطين.
البدايات
كانت البدايات بأيدي وتمويل صهيوني حينما حاول تيودر هرتزل صناعة أول فيلم دعائي بعنوان «أرض الميعاد»، في السنوات ما بين 1899 وحتى 1903م، في محاولة لترسيخ فكرة الحق الإلهي للصهاينة في أرض فلسطين، لكن مشروع هرتزل فشل لأسباب كثيرة، لعل أهمها قلة الإمكانات الفنية في ذلك الوقت المبكر.
في عام 1903م، تبدل الأمر عندما أوفدت شركة أديسون أحد المصورين إلى فلسطين لينتج أفلاماً قصيرة ترسخ المفهوم الذي أطلقه اللورد شافنتري عام 1840م «وطن بلا شعب لشعب بلا وطن»، التي أسست لفكرة طرد المجموعات البدوية من عرب فلسطين باعتبارهم مجموعة من البدو قدموا من الجزيرة العربية وعليهم أن يعودوا إليها، فإنكار وجود شعب فلسطيني كان أساس الفكرة التي نفذتها شركة أديسون بتمويل من الوكالة اليهودية، التي وثقت أيضاً ضمن المشروع وصول المهاجرين الأوائل لـ«أرض الميعاد».
ركزت تلك المرحلة التي سبقت إقامة دولة للكيان الصهيوني على خلق واقع وهمي وخلق «يوتوبيا» الأرض المقدسة الخالية من السكان التي تنتظر من سيعمرها، وساهمت في خلق رموز وأيقونات من اليهود في السينما العالمية التي نشطت منذ عام 1908م سواء في هوليوود التي أضحت عاصمة الإنتاج السينمائي، أو في أوروبا، لتصبح السينما العالمية رأس الحربة في توجيه الرأي العام العالمي حول الصراع العربي الصهيوني الدائر على الأرض الفلسطينية.
السردية للرواية الصهيونية أثناء الانتداب البريطاني وأثرها
كان لاحتراف العديد من اليهود صناعة السينما وانتشارهم في هوليوود والسينما العالمية أثر كبير على تناول السينما للقضية الفلسطينية، ودعم بصورة كبيرة السردية الصهيونية للصراع الذي انتهى بإقامة دولة على الأرض المغتصبة، استطاع هؤلاء الصناع ترجمة الدعم السياسي البريطاني والأمريكي لليهود إلى أفلام تميل إلى تصوير اليهودي كشخص مضطهد، تم نفيه من وطنه الأم فعاش لألفي عام كمشتت، وحان الوقت لجمع هذا الشتات وإعادته لوطنه، وتم تجاهل كل العرقيات الأخرى التي عاشت على هذه الأرض.
خلال فترة الانتداب البريطاني (1920 – 1948م)، تأثرت السينما العالمية بسياسة بريطانيا التي دعمت هجرة اليهود بموجب «وعد بلفور»، وصورت أفلام تلك الفترة الفلسطيني كمتمرد وحشي لا يحمل أي قيم إنسانية، ويميل إلى القتل (إرهابي) -لم يكن المصطلح تم اختراعه بعد- في حين تم تصوير اليهودي كإنسان متحضر قادر على إعمار الأرض وتحويلها من مستنقعات وأحراش إلى جنة صالحة للإنسان ومعيشته، وأنه يدافع عن حقه في إقامة وطنه، ومن أمثلة هذه الأفلام:
– «Land of Promise» عام 1935م؛ هذا الفيلم الوثائقي واحد من أبرز الأمثلة على الدعاية الصهيونية التي صورت المستوطنين اليهود على أنهم رواد يبنون أرضًا مهجورة، متجاهلة الوجود الفلسطيني بشكل كامل، الفيلم تم إنتاجه من قبل المجلس اليهودي الفلسطيني لترويج فكرة أن الاستيطان تطوير لفلسطين.
– في عام 1940م وأثناء الحرب العالمية الثانية قدم شارلي شابلن فيلمه «The Great Dictator»، وهو أحد أشهر الأفلام في تاريخ السينما العالمية الذي جعل من قضية اضطهاد اليهود ومعاناة المجتمع اليهودي كأحد المجتمعات المهمشة قضية محورية أثرت على الرواية العالمية المتعلقة بأحقية اليهود في الحياة والعيش في وطنهم الأم.
– «The Wandering Jew» عام 1933م؛ فيلم بريطاني تناول موضوع الهجرة اليهودية إلى فلسطين بطريقة أدبية تعتمد على الأسطورة القديمة لـ«اليهودي التائه»، الفيلم يتطرق إلى فكرة الاضطهاد اليهودي على مر التاريخ، ويعرض فلسطين كملاذ آمن لهم؛ مما يعزز التعاطف مع المشروع الصهيوني.
– «Der Wille zur Macht» عام 1935م؛ فيلم دعائي صهيوني ألماني يتناول استيطان اليهود في فلسطين، ولكنه يُعرض بطريقة دعائية واضحة حيث يُبرز الفيلم كيف نجح اليهود في إعادة إحياء الأرض وتحويلها من أرض صحراوية إلى أرض زراعية مزدهرة؛ مما يتجاهل الرواية الفلسطينية المحلية ويعزز من سردية الاستيطان اليهودي كعملية تنموية وإنسانية.
السردية للرواية الصهيونية ما بعد النكبة وحتى الانتفاضة الأولى
بعد هزيمة الجيوش العربية وإعلان اغتصاب فلسطين، نالت السردية الصهيونية دعماً شعبياً وسياسياً كبيراً في الغرب والولايات المتحدة، وانعكس ذلك على الإنتاج السينمائي الذي بدأ في بناء صورة إيجابية تقدم اليهود كرواد وأبطال يقيمون دولة ديمقراطية في محيط عدائي ويواجهون تحديات صعبة.
وفي المقابل، تم تعزيز صورة سلبية عن العرب والمسلمين والفلسطيني بشكل خاص، وتم تقديمهم في صورة نمطية سلبية تعزز من التنفير منهم واعتبارهم هم المغتصبين للحق اليهودي فضلاً عن كونهم أعداء للحياة همجيين وإرهابيين، إضافة لإظهارهم أعداء للإنسانية عموماً، ومع نشأة الحركة النسوية تمت صبغة مجتمعاتهم بالذكورية المقيتة التي تعادي المرأة وتنتهك حقوقها.
وتجاهلت أفلام تلك الفترة في مجملها السردية الفلسطينية للصراع، سواء كانت تلك السردية تتعلق باللاجئين أو المعاناة تحت الاحتلال أو حقوق الإنسان، ومعاناة الأسرى في السجون، مع تغييب كامل لكل القضايا الجوهرية حول فلسطين، ومن أمثلة ذلك:
– فيلم «Exodus» إنتاج 1960م الذي أدى دوراً في خلق التعاطف مع اليهود وتعزيز صورة ذهنية عنهم كأبطال ناضلوا من أجل الهروب من «الهولوكوست» في أوروبا لإنشاء دولتهم وبناء وطنهم، بينما صور العرب كمجموعة معادية تقف في وجه هذا الحلم المشروع.
– «The Promise» فيلم تلفزيوني أمريكي إنتاج 1968م عزز لدى الأمريكيين سردية الحق اليهودي في فلسطين وشيطن المقاومة العربية التي تواجه اغتصاب الأرض الفلسطينية، معتبراً أن العرب هم عقبة في طريق أمان وسلام اليهود؟
– «Victory at Entebbe» فيلم من إنتاج عام 1976م يدعم رواية «إسرائيل» كدولة مقاومة للإرهاب، ويروي عملية إنقاذ رهائن مطار عنتيبي من قبل كوماندوز صهيوني، معززاً فكرة المحيط العدائي الذي يريد استئصال اليهود.
لقد اتسمت العقود الأولى منذ مؤتمر بازل وحتى الانتفاضة الأولى بنظرة أحادية سيطرت عليها الرواية الصهيونية في السينما العالمية، ولكن مع الانتفاضة الأولى بدأت تحولات طفيفة، ومع «طوفان الأقصى» نرصد تحولات أكثر جرأة وإن لم تكن كافية، سنفرد لها مقالاً آخر، إن شاء الله.