كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يعلّم أصحابه أمارات الفتن مخافة أن يقعوا فيها، يحذرهم إياها، ويبين علاماتها، ينصح لهم، ويشير عليهم، وفي خضم الحديث عن الفتن وكيفية التصرف حين وقوعها حيث يكون الاختلاط بالناس أدعى للوقوع فيها وأدعى لاختلاط الدين بالبدعة.
هنا نسوق بعض وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وقت وقوع الفتن احترازاً لعدم الوقوع فيها، وقد نبهنا عليه الصلاة والسلام لخطورة الفتن في حديث أبي هريرة حيث قال: «بادروا بالأعمال فتنًا كقِطَعِ الليل المظلم؛ يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيعُ دينَه بعَرَض من الدنيا» (صحيح مسلم).
أما وقت وقوع الفتن بالفعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف بكم وبزمانٍ أو يُوشِكُ أن يأتيَ زمانٌ يُغربَلُ النَّاسُ فيه غرْبَلةً تبقَى حُثالةٌ من النَّاسِ، قد مرجت عهودُهم وأماناتُهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبَّك بين أصابعِه»، فقالوا: كيف بنا يا رسولَ اللهِ؟ قال: «تأخذون ما تعرِفون، وتذرون ما تُنكرون، وتُقبِلون على أمرِ خاصَّتِكم، وتذَرون أمرَ عامَّتِكم» (أخرجه أبو داود).
1- تأخذون ما تعرفون:
أي حرص المؤمن وتمسكه بما أمر به الله ورسوله، والله عز وجل أمر عباده بما فيه صالحهم في الدنيا والآخرة ومنه:
– عبادته وحده لا شريك له، من الإيمان والإسلام، والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والاستعانة والاستعاذة، والتوكل والعمل، والدعاء، وهي كل ما يحرك الإنسان بدءاً من النية والهم بالعمل حتى يتمه لله عز وجل ظاهراً وباطناً.
والله عز وجل يقول في عبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، وقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) (النساء: 36)، وقال تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا الآيات) (الأنعام: 151).
وأما عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم من عبادة المسلم لربه، فعن مُعاذ بن جبلٍ قال: كنتُ رديف النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حمارٍ فقال لي: «يا معاذ، أتدري ما حقّ الله على العباد؟ وما حقّ العباد على الله؟»، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا»، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشر الناس؟ قال: «لا تُبَشِّرهم فيتَّكلوا» (رواه البخاري ومسلم).
2- تذرون ما تنكرون:
أي تجنب ما نهي عنه الله ورسوله، ووقت الفتن خاصة حيث تزداد المعاصي وتطمس الفطرة ويختم الله على كل قلب متكبر، ولا يؤمن إلا من قد آمن، فالمهاجر كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» (أخرجه البخاري)، وأعظم ما نهى الله عز وجل عنه: الشرك به سبحانه، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)،
لماذا أعظم ما أمر الله عز وجل به التوحيد؟ لأن تركه يترتب عليه الخروج من الإسلام، ولماذا أعظم ما نهى الله عز وجل عنه الشرك؟ لأن الشرك والكفر بوابة الخروج من الإسلام، فأساس الإسلام وأصله التوحيد، وأعظم ما يخرج الإنسان منه الشرك(1)، وأعظم ما ينكره المسلم هو الشرك بالله عزَّ وجلَّ كما قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لما سأله ابنُ مسعودٍ: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك» (متَّفق عليه)، وكل منكر يجب هجره، ومنه قتل النفس، ومنه التعامل مع الناس بالربا فهو حرام ولو فعله كل خلق الله، ومنها الكذب والغيبة والنميمة، وأكل مال اليتيم، وظلم القريب أو البعيد، وغمط الحق، والفساد في الأرض، وكل ما يمكن أن يغضب الله ورسوله.
3- تقبلون على أمر خاصتكم:
أي تعهد خاصتكم من الأهل والأبناء والأزواج بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإنقاذهم من السقوط في الفتن، يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ) (التحريم: 6)، فالمرء له أولويات خاصة في وقاية أهله من النار، وبعض الدعاة ينشغلون بأمر الناس ويتركون خلفهم ذريتهم وأزواجهم بغير توجيه بحجة انشغاله بالدعوة، والنبي صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى بالدعوة بدأ بذي القرابة، بقوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214).
4- تذرون أمر عامتكم:
أي ترك أمر العامة؛ لأنه لن ينفع فيهم الوعظ أو التوجيه لوقوع معظم الناس، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم: «مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا»، فحين تشتد الفتن يسقط البعض وأكثرهم هم الباحثون عن الفتنة، فلا يسقطون إلا وقد فسدت قلوبهم فلا ينفع فيهم الوعظ، وقد ورد في ذلك قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: 105)، يقول فيها ابن مسعود: إذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ نفسه، فهو حينئذ تأويل هذه الآية(2)، وعن أَبِي ثَعْلَبَةَ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْك بِنَفْسِك وَدَعْ عَنْك الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ قِيلَ يَا رَسُولَ صلى الله عليه وسلم: أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: لَا بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» (رواه أبو داود).
إن الأمة المسلمة معرضة للفتن خاصة في آخر الزمان، وعلى المسلم أن يحترز من الوقوع فيها، ولن يتأتى له ذلك إلا بكامل الاتباع لنبيهم عليه الصلاة والسلام وحسن السمع والطاعة ولا يكونوا كأمم سبقتهم قالوا سمعنا وعصينا.
_________________________
(1) تأصيل العقيدة، عبدالرحيم السلمي، ج2، ص 14.
(2) القول البين في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عبد العزيز بن عبدالله الراجحي، ص 156.