قال معاذ بن جبل: دَخَلتُ مسجدَ دِمَشقَ، فإذا أنا بفَتًى بَرَّاقِ الثَّنايا، وإذا النَّاسُ حَولَه، إذا اختلَفوا في شيءٍ أسنَدوه إليه، وصَدَروا عن رَأيِه، فسَأَلتُ عنه، فقيلَ: هذا مُعاذُ بنُ جَبلٍ، فلمَّا كان الغَدُ هَجَّرتُ، فوَجَدتُه قد سَبَقَني بالهَجيرِ (التَّبكيرُ إلى الصَّلاةِ) ووَجَدتُه يُصلِّي، فانتَظَرتُه حتى إذا قَضى صَلاتَه جِئتُه مِن قِبلِ وَجهِه، فسَلَّمتُ عليه فقُلتُ له: واللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ للهِ، فقال: آللهِ؟ فقُلتُ: آللهِ، فقال: آللهِ؟ فقُلتُ: آللهِ، فأخَذَ بحُبْوةِ رِدائي فجَبَذَني إليه وقال: أبشِرْ؛ فإنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ: وَجَبَتْ مَحبَّتي للمُتحابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاوِرينَ فيَّ، والمُتباذِلينَ فيَّ»(1).
ما أجملها من حياة، تلك التي تجمع القلوب على طاعة الله، وتعصمها من فتنة الدنيا وعذاب الله! إنها حياة المحبة في الله، وهذه بعض ثمراتها:
1- استحقاق محبة الله:
في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَرْيَةٍ أُخْرَى، فأرْصَدَ اللَّهُ له علَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أتَى عليه، قالَ: أيْنَ تُرِيدُ؟ قالَ: أُرِيدُ أخًا لي في هذِه القَرْيَةِ، قالَ: هلْ لكَ عليه مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قالَ: لا، غيرَ أنِّي أحْبَبْتُهُ في اللهِ عزَّ وجلَّ، قالَ: فإنِّي رَسولُ اللهِ إلَيْكَ بأنَّ اللَّهَ قدْ أحَبَّكَ كما أحْبَبْتَهُ فِيهِ».
2- تذوق حلاوة الإيمان:
في الصحيحين عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ».
3- تحقيق كمال الإيمان:
أخرج أبو داود، والطبراني، عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبَّ للهِ وأبغض للهِ وأعطَى للهِ ومنع للهِ فقد استكمل الإيمانَ»، وعن ابن عباس أن رسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «أي عرى الإيمان أوثق؟»، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله»(2).
4- الإعانة على الطاعة:
أورد ابنُ حجر في «فتح الباري» عن الأسودِ بنِ هلالٍ قالَ: قالَ لي معاذُ بنُ جبلٍ: اجلِس بنا نؤمِنُ ساعةً، وفي روايةٍ لَهما: كانَ معاذُ بنُ جبلٍ يقولُ للرَّجلِ من إخوانِهِ: اجلس بنا نؤمنُ ساعةً، فيجلِسانِ فيذْكرانِ اللَّهَ تعالى ويحمدانِهِ؛ ففي هذا دليل على أن الحب في الله يدفع أصحابه إلى فعل الطاعات والمداومة عليها.
وقال الماوردي: يزداد المسلم في طاعته اقتداء بغيره، وهذا تُثْمِرُهُ مُجَالَسَةُ الْأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ، وَتُحْدِثُهُ مُكَاثَرَةُ الْأَتْقِيَاءِ الْأَمَاثِلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ»، فَإِذَا كَاثَرَهُمْ الْمُجَالِسَ، وَطَاوَلَهُمْ الْمُؤَانِسَ، أَحَبَّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ دُونَهُمْ، فَتَبْعَثُهُ الْمُنَافَسَةُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ، وَرُبَمَا دَعَتْهُ الْحَمِيَّةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ فَيَصِيرُوا سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ، وَبَاعِثًا عَلَى اسْتِزَادَتِهِ(3).
5- الشعور بطيبات الحياة:
في دائرة الحب في الله يستأنس المسلم بالصحبة ويفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم ابتغاء وجه الله تعالى، ويتفقد الغائب منهم ويزور المريض وغير ذلك من أحوال الحياة الدنيا، حيث يجد نفوساً صافية وقلوباً سليمة، لا غل فيها ولا حسد ولا ضغينة، فيفرح بها ويحرص على مداومة علاقته بهؤلاء الأطهار، فهم عدته في هذه الحياة.
وكان السلف الصالح يحرصون على صحبة المتحابين في الله، ويصفونها بخير الصفات، ويعزي بعضهم بعضاً في فقدان أحد أحبابه في الله، فعن عمر بن الخطاب أنه قال: لقاء الإخوان جلاء الأحزان، وعن أبي القاسم عبدالله البغوي أنه قال: سمعت الإمام أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذل، وقال سفيان بن عيينة: قال لي أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من إخواني فكأنما سقط عضو من أعضائي(4).
6- اطمئنان القلب والأمن من أهوال يوم القيامة:
لقد أخبر الله تعالى أن الأخلاء يكونون يوم القيامة أعداءً إلا المتقين الذين كانوا يتحابون في الله، حيث قال عز وجل: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ {67} يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) (الزخرف)، فعامة الناس يوم القيامة يهربون من بعضهم، أما المتقون فليسوا بأعداء يوم القيامة، بل إنهم آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
7- الدخول في ظل العرش يوم القيامة:
من أهوال يوم القيامة شدة الحر، حيث تدنو الشمس من الناس وينتشر العرق الشديد في ساحة الحشر، وهنا يكون الناس في حاجة إلى ظل يقيهم الحر والعرق، وفي هذا الموقف ينادي الله تعالى: «أيْنَ المُتَحابُّونَ بجَلالِي؟ اليومَ أُظِلُّهُمْ في ظِلِّي، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي»(5).
8- الفوز بالمكانة التي يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء:
أخرج أبو داود عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ مِن عبادِ اللهِ لَأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شُهداءَ، يغبِطُهم الأنبياءُ والشُّهداءُ يومَ القيامةِ بمكانِهم مِن اللهِ تعالى»، قالوا: يا رسولَ اللهِ، تُخبِرُنا مَن هم؟ قال: «هم قومٌ تحابُّوا برُوحِ اللهِ على غيرِ أرحامٍ بَيْنَهم، ولا أموالٍ يتعاطَوْنَها، فواللهِ إنَّ وجوهَهم لَنُورٌ، وإنَّهم على نُورٍ، لا يخافونَ إذا خاف النَّاسُ، ولا يحزَنونَ إذا حزِن النَّاسُ»، وقرَأ هذه الآيةَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62).
9- الشفاعة يوم القيامة:
أخرج الإمام أحمد، وابن ماجه، وصحح الحديث الشيخ الألباني عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خَلَصَ المؤمنُونَ مِنَ النارِ وأَمِنُوا؛ فوالذي نَفسي بيدِهِ ما مُجَادَلَةُ أَحَدِكُمْ لِصاحِبِه في الحَقِّ يكونُ لهُ في الدنيا بِأَشَدَّ من مُجَادَلَةِ المؤمنينَ لِرَبِّهِمْ في إِخْوَانِهِمُ الذينَ أُدْخِلوا النارَ، قال: يقولونَ: رَبَّنا! إِخْوَانُنا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنا، ويَصُومُونَ مَعَنا، ويَحُجُّونَ مَعَنا، ويجاهدونَ مَعَنا، فَأَدْخَلْتَهُمُ النارَ. قال: فيقولُ: اذْهَبُوا فَأَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ مِنْهُمْ، فيأتونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ، فيخرجَونَهم مِنْها».
وروى البغوي عن جابر بن عبد الله قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الرجل ليقول في الجنّةِ: ما فعل بصديقي فلان؟ وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم».
10- دخول الجنة مع من تحب:
روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: قِيلَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ ولَمَّا يَلْحَقْ بهِمْ؟ قالَ: «المَرْءُ مع مَن أحَبَّ»، فإذا لم يستطع المحب لإخوانه أن يبلغ منزلتهم؛ فإن الله تعالى يرفع درجته فيحشر معهم في الجنة.
___________________
(1) أخرجه أحمد (22030).
(2) رواه أحمد (4/ 286).
(3) أدب الدنيا والدين، ص 106.
(4) غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة، ص 27.
(5) صحيح مسلم (2566).