ابتليت المجتمعات ببعض أفرادها الذين يتعمدون الاستهزاء والسخرية من غيرهم، وهو ما يسمى بالتنمر، الذي يعني الانتقاص من شأن الآخرين واحتقارهم وتعمد الإساءة إليهم، وللتنمر عواقب وخيمة وأخطار متعددة، منها:
أولاً: شيوع العداوة والبغضاء بين الناس:
إن المتنمر يستهين بغيره ويهزأ به، وهذا يؤدي إلى الكراهية والضغينة والتربص بالساخر، حتى إذا حانت فرصة الانتقام منه؛ فإن المسخور منه يُقبل على ذلك دون تردد، حتى يكون الصراع والنزاع هو السائد بين الناس.
ثانياً: المتنمر لا بد يُتنمر عليه:
معلوم أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ومن عيّر أحداً بشيء عُيِّر به، فالمتنمر لا بد أن يجد من يتنمر عليه حتى ولو بعد حين، بل إن الناس جميعاً يترقبون هذا الساخر في كل أحواله حتى يلتقطوا له عيوباً، يدافعون بها عن أنفسهم حين يسخر منهم، وهذا يجعل عيوبه ومساوئه بادية أكثر من غيره، إذ الجميع يحرص على معرفتها، وفي هذا قال الإمام الشافعي:
إذا رُمْت أن تحيا سليماً من الردى ودينك موفور وعِرْضُكَ صَيِنّ
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعيناك إن أبدت إليك معايباً فدعها وقل يا عين للناس أعين
ثالثاً: المتنمرون شرار الناس:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
رابعاً: الساخرون ينسون ذكر الله:
بيّن الله تعالى أن الساخرين يستهزئون بالمؤمنين، وينسون ذكر الله رب العالمين، وهذا مستفاد من الحوار بينهم وبين الله تعالى حين طلبوا أن يخرجوا من النار: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ {106} رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ {107} قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ {108} إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ {109} فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ {110} إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) (المؤمنون).
خامساً: المتنمر عاص لله ورسوله:
نهى الله تعالى عن التنمر والسخرية والاستهزاء بالناس فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).
كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن احتقار الناس، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى»، فإذا كان النهي عن التنمر وارد في القرآن والسُّنة؛ فإن الفاعل له يعد عاصياً لله ورسوله.
سادساً: المتنمر يتشبه بالمنافقين:
المنافقون موصوفون في القرآن بأنهم يسخرون ويستهزئون بغيرهم، حيث قال الله تعالى عن المنافقين: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) (البقرة: 14)، وقال عز وجل: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) (التوبة: 64).
سابعاً: المتنمر معدود من المجرمين:
إن الله تعالى تحدث عن المجرمين في القرآن وأكد أن من صفاتهم الاستهزاء بالمؤمنين، حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ {29} وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ {30} وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ {31} وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ {32} وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ) (المطففين).
ثامناً: التنمر من سلوكيات الجاهلين:
في صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري قال: «إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أبا ذر، أعيرته بأمه، إنك امرؤ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ».
تاسعاً: التنمر من سلوك الكافرين:
قال تعالى: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (لبقرة: 212)، وقصّ القرآن الكريم قصة سيدنا نوح عليه السلام، وأكد أن الكافرين كانوا يسخرون منه، حيث قال تعالى: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) (هود: 38).
وأوضح سبحانه وتعالى أن الكافرين كانوا يستهزئون بالرسل أجمعين، حيث قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (الأنعام: 10)، كما بيّن تعالى أن من استهزأ بالله ورسوله فقد كفر، وفي هذا يقول تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ {64} وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ {65} لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ) (التوبة).
عاشراً: المتنمر موعود بالويل والعذاب المهين:
المتنمر هو الهماز اللماز؛ أي الذي يسخر من الناس بالإشارة أو اللفظ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) (الحجرات: 11)، كما توعد الله تعالى فاعل ذلك بالويل، فقال: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (الهمزة: 1).