في ظل التحديات المختلفة والاضطرابات المتنوعة التي تعاني منها الأسرة اليوم بسبب انتشار قيم العولمة ووسائلها، يبرز دور الخطاب الديني كأحد أهم الأسباب التي يمكن أن تعيد للأسرة توازنها واستقرارها ودورها، وذلك لأن الخطاب الديني يستمد مضمونه من شرع الله العليم الحكيم، ويحمل في طياته تلك القيم الربانية التي أثبتت دورها وفعاليتها طوال التاريخ الإسلامي العظيم، ولأن الخطاب الديني يتمتع باحترام وتقدير كبيرين في نفوس أغلب الناس؛ ما يجعله أحد أكثر الخطابات المتداولة تأثيراً، إن لم يكن أكثرها.
فهل استطاع الخطاب الديني المتداول اليوم أن يحقق ذلك التأثير المأمول في مواجهة قيم العولمة وتحدياتها المفروضة على الأسرة؟ أم أنه بحاجة إلى مزيد من التقييم والتقويم ليحقق أهدافه النبيلة ومقاصده الربانية؟
نحاول في هذا المقال أن نرصد بعض الملاحظات النقدية الموجه إلى الخطاب الديني، سعياً في الارتقاء به وتطويره، فالخطاب الديني في نهاية الأمر اجتهاد بشري ينتسب إلى الدين ويعتمد عليه، أو هكذا يجب أن يكون، والخطأ البشري وارد فيه، بل هو واقع، أما الدين بوصفه وضعاً إلهياً فأحكامه منزهة عن النقض والنقد.
أولاً: الخطاب الجامد:
يعتقد بعض أصحاب الخطاب الديني المعاصر أن مجرد نقل الفتاوى الفقهية كما وردت في كتب الفقهاء كفيل بمعالجة مشكلات الأسرة واضطراباتها، وكأن الفتوى الفقهية تعمل في فراغ وتطبق في أي مساحة وساحة، وهذا خطأ كبير في فهم حقيقة الفتوى وواقعيتها، فالفتوى الشرعية تُبنى على معرفتين؛ معرفة بالشريعة الغراء وعللها ومقاصدها، ومعرفة بالواقع الذي تتنزل فيه أحكام تلك الشريعة وسننه وأحكامه، وإن أي خلل أو قصور في هاتين المعرفتين يعني قصوراً في الفتوى نفسها.
وحين ينزل الداعية تلك الفتاوى القديمة على الحالات المعاصرة دون مراعاة لتلكم التغيرات التي حدثت في الواقع فإنه يضر ويفسد من حيث أراد أن يحسن ويصلح، والأسرة اليوم واقع مركب ومتشابك تتنازعه قيم الشرق والغرب في مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وبالتالي فإن نقل الفتوى القديمة فقط لا يكفي لبيان الحكم الشرعي، إلا إن تأكدنا من مطابقة الحال للحال والمآل للمآل.
إن الأسرة اليوم لا تصلح ببيان الحقوق والواجبات فقط، ولكنها تحتاج إلى إرشاد نفسي وتوجيه اجتماعية وفقه مالي ونصيحة صحية وذوقية حتى في العلاقة الخاصة بين الزوجين، خاصة في عالم مفتوح وقرية عالمية صغيرة تجمع كل الثقافات الإنسانية على شاشة هشة توصف بالذكاء!
ثانياً: الخطاب الناقص:
ومن ناحية أخرى، يلاحظ المتابع للخطاب الديني المعاصر الموجه للأسرة وجود خطاب ديني ناقص منتزع من سياقه الشرعي المتكامل، كقطعة منفردة من قطع البزل، التي لا تكفي وحدها لإعطاء الصورة الكاملة حقها من التعبير عن مضمونها ورسالتها، خطاب مفرق ممزق في حق زوجي هنا أو واجب شرعي هناك، لا يلاحظ النظرة الكلية الشاملة للحياة الأسرية، ويقدم معالجات جزئية لا تراعي القواعد المترابطة الناظمة للأحكام الشرعية المتعلقة بالأسرة.
فالشريعة حين تخاطب الزوج بحق المهر والنفقة تخاطب الزوجة بحق الطاعة والقوامة، وحين تأمر الولد بطاعة الوالدين فإنها تجعلها في حدود المعروف وبما لا يخالف أمر الله في حق الزوجة أو الولد، في توزان رباني دقيق يضمن كل الحقوق ويشمل حالات المجتمع المختلفة كلها، وإن الخطاب الناقص أو الجزئي يخل بهذه الرؤية الشرعية المتكاملة والمترابطة.
ثالثاً: الخطاب الغائب:
وهو ذلك الخطاب الذي يُغفل أو يتغافل عن تحديات الأسرة المعاصرة واحتياجاتها، ويقدم خطاباً رومانسياً لا يشتبك بالواقع ومتطلباته، كأنه في جزيرة معزولة عن العالم أو في حقبة تاريخية قديمة لها واقع غير هذا الواقع الذي نعيش فيه، خطاب بارد آثر الراحة والكسل على التفكير والعمل، لتبقى الأسئلة التي تشغل بال الأسرة معلقة، والمعضلات التي تفتك بكيانها بلا طبيب ولا دواء.
إن التحديات الأسرية المعاصرة ضاغطة، وهي بحاجة إلى من يشتبك معها بواقعية، خاصة في ملفات: الإلحاد والنسوية وظلم المرأة والإباحية والتفاهة وثقافة الاستهلاك ونحوها، ولا يجوز للخطاب الديني أن يَغيب أو يُغيَّب عن هذه التحديات، بل عليه أن يقدم رؤيته العلمية والعملية بما يعين أرباب الأسر على قيادة دفة الحياة نحو شاطئ الأمان وبر السعادة الأسرية.
رابعاً: خطاب الدخن:
وهو ذلك الخطاب الذي مزج الخطاب الديني الأصيل بأفكار نسوية مادية تارة أو أفكار ذكورية تقليدية تارة أخرى، وأضفى على الجميع صبغة دينية تُشرِّعها وتقوِّيها، وتتركها تتصارع في المجتمعات العربية والإسلامية، وتصرع معها الأسرة وأهدافها الإنسانية وغاياتها الربانية.
فتجد اليوم -للأسف الشديد- خطاباً دينياً ينتسب إلى الإسلام ويقدم في بلاد المسلمين، ولكنه متأثر ببعض الفلسفات المادية الغربية التي تتمركز حول الأنثى وتصور علاقتها بالرجل علاقة صراع ونزاع في الحقوق والصلاحيات، وفي مقابله خطاب ديني آخر يستند إلى العادات والتقاليد يبرر ظلم المرأة وتجاوز حقوقها باسم الدين، وبينهما تحار الأسرة المسلمة وتفقد توازنها ويتوزع أفرادها، والدين الحق لا يقر هذا ولا ذاك.
إن الخطاب الديني الموجَّه إلى الأسرة يحمل غاية عظيمة من أعظم غايات الدين الرباني الحق الذي أنزله الله تعالى ليسعد به الإنسان في الدنيا والآخرة، ألا وهي غاية صلاح الأسرة وصلاح أبنائها، وبحضور هذا الخطاب وصلاحه واستقامته رضا الرحمن وسعادة المجتمع والإنسان.