إن الوقوف على الدور شديد الخصوصية للمنابر في الإسلام عبر تاريخه الطويل تستلزم ابتداءً فهماً متعمقاً لطبيعة العلاقة الاستثنائية بين الدين الإسلامي والسياسة من ناحية، والمسجد والمجتمع من ناحية أخرى، حيث تأسس المسجد في صدر الإسلام كمؤسسة دينية ثقافية اجتماعية وسياسية تجمع المعاملات والعبادات في فضاء واحد، وذلك انعكاساً لمنصب النبي صلى الله عليه وسلم القائد الذي ضم سلطته الدينية كمرشد ديني بوحي إلهي مع دوره السياسي كقائد للأمة ومدبر لشؤون السياسة والمجتمع والجيش والعلاقات الخارجية.
بهذه العلاقة التي تشكلت في دولة المدينة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة ورسول الأمة، تشكل دور المسجد في التاريخ الإسلامي ليس فقط كفضاء للاجتماع وإدارة شؤون الدولة، بل كمنبر للحشد والإعلان والوعظ والتدبير السياسي والاجتماعي.
والمنبر يمثل خصوصية جزئية مستمدة من خصوصية المسجد الذي شكل لبنة أولية وأساسية في تاريخ دولة الإسلام، إذ تشكل المسجد كأول مؤسسة يتم التعجيل بتشييدها كرمز لتلك الدولة الوليدة وإعلان لما ستكون عليه تلك المؤسسة من محورية طاغية لتعمل على تنظيم وإدارة كافة شؤون المسلمين الدنيوية والأخروية على السواء اعتماداً على قيادة النبي صلى الله عليه وسلم الموحى إليه.
أما المنبر كمنصة لإلقاء الخطب الإسلامية فقد تأخر استحداثه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم سنوات، ولم يكن لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم منبر في أول الأمر على الرغم من إلقاء النبي صلى الله عليه وسلم لخطب متعددة تنوعت بين خطب الجمعة وخطب أخرى على مدار سنوات في مسجده متكئاً إلى جذع نخله.
فلما تقدم العمر بالنبي صلى الله عليه وسلم أشار عليه بعض الصحابة رأفة به أن يجلس على منصة عالية تتيح له الراحة وتسمح بإبرازه للناس الذي كانوا قد كثر عددهم بدخول مزيد من الناس في الإسلام، ليُصنع أول منبر في الإسلام في العام السابع للهجرة النبوية المشرفة، ويظل ذلك المنبر منارة إسلامية دينية وسياسية تنشر الخطاب الإسلامي بأغراضه المتنوعة إلى الأمة الإسلامية لا يشاركها نظير حتى نهاية عهد عمر بن الخطاب الذي كان قد رفض إقامة منبر بمصر بعد فتحها من جانب عمرو بن العاص، ولم يكن للأمة الإسلامية منبر سوى منبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الحين.
لكن المنبر قد تحول فيما بعد عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رمز إسلامي مبثوث في كافة البلاد التي يصل المسلمون إليها بالفتوحات، فجرت العادة أن يتم وضع منبر في كافة المساجد الكبرى المنتشرة في سائر أنحاء الدولة الإسلامية، ليتوسع دور المنبر من ساحة لإعلان خطب النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده إلى أدوار دينية وسياسية وإعلامية يتواصل بها ولاة الأمر في كافة أنحاء الدولة الإسلامية مع الأمة.
وتتجلى مكانة المنبر النبوي على وجه التحديد في الإسلام من خلال أحاديث متنوعة وردت في فضله، وأشهرها حديث أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» (متفق عليه).
منبر واحد.. أدوار متعددة
ومن فوق منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلت الرسالة الإسلامية السمحاء، وشُرعت قوانين الدولة الإسلامية، ونودي للجهاد في سبيل الله، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم صحابته والتابعين والمسلمين شؤون دينهم ودنياهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم بويع خليفته الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه البيعة العامة من فوق منبر النبي صلى الله عليه وسلم، ليصبح المنبر منذ ذاك الحين منصة إعلامية وأداة للإعلان عن الخليفة والحصول على بيعة المسلمين له، فألقى الصديق من على منبر الرسول صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة: «.. إن أخطأت فقوموني..».
وفي المسجد الأعظم بالكوفة صعد الحجاج بن يوسف الثقفي درجات المنبر ليعلن توطيد دعائم سلطته الجديدة التي اتخذت نهجاً مستبداً يتبنى الدموية والتهديد والوعيد، ولم يكن هناك أفضل من المنبر لإلقاء واحدة من أشهر خطب الحجاج التي أظهرت مدى حاجة أعتى الولاة سلطة وهيمنة للمنبر للتأكيد على تلك السلطة وبث بذور الطاعة في البلاد.
واستخلاصاً من ذلك، فقد استمر المسجد الإسلامي في أداء أدوار أرحب من تلك التي أداها المنبر، فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانتهاء عهد الخلافة الراشدة ونشوب الفتنة، وظفت المنابر بشكل أكبر في الصراع السياسي وباتت أكثر تقييداً، بينما ظلت المساجد الإسلامية مؤسسات دينية واجتماعية وتعليمية وثقافية أمدت الدولة الإسلامية بقيادات وكفاءات وعلماء وأدباء ورسخت التآزر الاجتماعي واعتمدت التعبئة العامة للجيوش الإسلامية وأطلت بإشعاع الحضارة والدين الإسلاميين إلى كافة أنحاء العالم.
واليوم تعيش المنابر أزمة عامة منبثقة من تلك الأزمة التي تشهدها المساجد نتيجة تراجع كبير في أدوارها الاجتماعية والسياسية، واقتصارها على الدور الديني كدور للعبادة وساحة للوعظ والتبليغ، بينما تعيش المنابر أزمة خاصة نتيجة رقابة صارمة فرضت عليها سواء نتيجة رغبة ملحة من جانب الأنظمة السياسية لترسيخ صوتها والحيلولة دون سيطرة أصوات معارضة لها على تلك المنابر.
بالإضافة إلى جهود بذلت لتحييد المنابر عن الجماعات المتطرفة التي حاولت استغلال المنابر لبث أفكار مغلوطة عن الإسلام ونشر التطرف والإرهاب والعنف بين شباب المسلمين؛ مما نتج عنه في النهاية تضاؤل كبير في الخطاب الديني على المنابر وتراجع لتأثيره المأمول على الأمة الإسلامية التي فقدت الثقة والاتصال بالمنابر نتيجة غيابها عن مناقشة شؤون المسلمين اليومية والتعاطي معها بشكل فعال.
وأخيراً، فإن تفعيل الأدوار المهمة للمنابر في المجتمع والدولة يتطلب إدراكاً أولياً للمسجد ومكانته الاستثنائية في الإسلام، بالإضافة إلى أهمية الالتفات للخطاب الديني المبثوث فوق المنابر من جانب المؤسسات الدينية الرسمية وما يحيط به من تحديات تتطلب تفاعلاً مؤثراً وخلاقاً يسهم في تطوير طرائق تنزيل الحكم الشرعي على مشكلات وقضايا المجتمع الإسلامي، واجتذاب المسلمين مرة أخرى للمسجد وخاصة النشء باعتباره فضاءً إسلامياً يعزز تنمية بذور المحبة والإخاء والعمل الجماعي فيما بين المسلمين بما يعيد إليه تآزرهم وتعاضدهم الذي مكنهم منذ لحظة بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم من خلق دولة إسلامية قوية مزدهرة ساهمت بقوة في تاريخ حضارات العالم ولا تزال تحمل أيادي بيضاء على الحضارة الغربية وما وصلت إليه من إنجازات واكتشافات في كافة المجالات.