في حياة الأمم مراحل من التاريخ مستقرة تمشي في خطوط مستقيمة، وفي حياة الأمم أيضاً نقاط فارقة ومفاصل ينعطف عندها المسار ويغير النهر مجراه ويتخذ مسلكاً جديداً.
تلك الأيام الفاصلة هي التي سماها القرآن الكريم «أيام الله»، فقال ربنا في كتابه: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم: 5).
وإذا كانت الأيام كلها أيام الله، فإن ذلك من قبيل العام الذي أريد به الخاص والمعنى، وذكرهم من أيام الله بالأيام الفارقة التي شهدت تنزل آيات الله بالتغيير وبإحقاق الحق وإبطال الباطل، إن الباطل كان زهوقاً.
ومن قواعد الاجتماع الإنساني أن من يعيشون لحظات التحول الكثيف تلك لا يدركون حقيقتها، ولا يتصورون ما يترتب عليها من متغيرات، ويظلون يبحثون عن تفسيرات وتأويلات تبعد عن أذهانهم فكرة التغيير، وتبني في عقولهم أوهام الاستقرار وبقاء ما كان على ما كان!
إن الذين عاشوا نبوءات الأنبياء لم يتصوروا أبداً أن يكون هؤلاء البشر العاديون الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق رواداً لتغيير كبير في منظومات الحياة جميعاً من الاعتقاد إلى الاقتصاد ومن الرئاسة إلى السياسة، وانهارت على أيديهم إمبراطوريات كبرى ودول عظمى وممالك، وكان أهلها يتخذون من الجبال بيوتاً فارهين، ولربما صاح صائحهم: من أشد منا قوة؟! (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (الحشر: 2)، وأمضى الله فيهم أمره وأعمل فيهم سننه، وأجرى عليهم قدره، وأخذهم أخذاً وبيلاً، وأراهم من المستضعفين ما كانوا يحذرون!
بيد أن العقل الجمعي للبشر يؤثر السلامة غالباً ويبحث عن الحلول السهلة التي يجد فيها راحته وتحقيق رغائبه، ويبني تصوره لما سيأتي على خبرته ومشاهداته فيما مضى، مستسلماً لقانون الواقع الجامد العصي على التغيير، لا لقانون التغيير المطرد الذي لا يعرف السكون!
لقد ظن من عايش فرعون رغم ظهور أباطيله وانكشاف أكاذيبه أنه أقوى كثيراً من أن يدال عليه، وظن أن موسى ذلك الصوت المنفرد التائه بين هتافات الجموع بمجد الفرعون أضعف كثيراً من أن يدال له، فكان ما نعلم من هلاك فرعون ونجاة موسى ومن معه في يوم من أيام الله.
وسار التاريخ البشري على هذه الوتيرة من استقرار طويل يوهم الناس استحالة التغيير، ثم لحظات مفاجئة يعاد فيها ترتيب الأمور؛ فيحق الله الحق ويزهق الباطل، ويُري العباد آيات قدرته وآيات حكمته وآيات تدبيره؛ (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص)، وإن من أحكم الحكمة أن تُعمل الأمة عقلها السنني المستنير، وتستلهم هدايات الوحي؛ فتدرك من البدايات صورة النهايات، وترى بلحاظ الرأي ما هو واقع، ولا تنخدع بزيف الواقع فتفوتها عبقرية اللحظة الفارقة.
وإن ما نراه اليوم في أكناف بيت المقدس يمثل واحدة من الملاحم الكبرى التي تشبه الأساطير التاريخية أكثر مما تشبه المدافعة البشرية المعتادة؛ حيث نرى قوة غاشمة مجرمة تمر بلحظة غرور عمياء كتلك التي مر بها فرعون يوم قرر أن يتبع موسى ومن معه، وأن يخرج في طلبهم، حتى بعد أن رأى البحر ينفلق ثم ينفرق فيصبح كل فرق كالطود العظيم ليكون في غرورهم مهلكهم!
وترى على الضفة الأخرى من النهر ثباتاً أسطورياً وملحمة يخوضها رجال صنعهم الله على عينه واصطنعهم لنفسه يختطون بدمائهم ما سبق به القدر وجرى به القلم.
وعلى الأمة أن تعي أن المعركة هي معركة سائر المسلمين، يقودها طليعة منهم مؤقتاً حتى تستفيق الأمة وتقوم بواجبها على الوجه الأكمل، فالمسجد الأقصى ليس إرثاً فلسطينياً، وليس قضية أرض ولا حدود ولا وطن من الأوطان، ولكنه قضية عقيدة مركزية عند أمة الإسلام؛ فهو أمانة النبي صلى الله عليه وسلم في رقاب المسلمين، وهو أول القبلتين ومنتهى الإسراء ومبتدأ المعراج وثالث الحرمين، وقد أمرنا بشد الرحال إليه كما نشدها إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي ليعلم كل مسلم أن «الأقصى» أمانة في عنقه، ولن يتحرر المسجد الأقصى إلا حين ينهض له أهله من كل ديار الإسلام ويسعوا لتحريره.
إن بقاء الاحتلال الغاشم المجرم بجرائمه وعدوانه على كل مظاهر الحياة ليس قدراً محتوماً، وإنما حالة عارضة قد دنا وقت زوالها، ومهما تكن اللحظة ثقيلة وكثيفة، فإن على الأمة أن تستعد لمدافعة ذلك الباطل المسعور قبل أن يخرج من حدود فلسطين إلى كل أرض مسلمة تقع في دائرة أطماعه التي لا نهاية لها.
ولم يعد أمام الأمة خيار، فهي معركتها الأصيلة وقد فرضت عليها اليوم فرضاً، وإن لم تذهب إليها راغبة ستساق إليها كارهة!
فإما أن تقوم الأمة بواجبها في الإسناد والإمداد والإعداد والاستعداد، وإما ينزل العدو بساحتها، وإن غداً لناظره قريب.
أما عن أبطال الملاحم، فلا نملك في حقهم إلا أن نقول:
إن الأبطال يختارون نهايتهم، ويكتبون بالدم القاني خاتمة القصة، ويصرون أن يكونوا الرواة لا الخبر، ويختط أحدهم حروفه الأخيرة برأس متفجر ويد مبتورة! فيصنعون في القلوب صنيع المطر في الأرض العطشى، وتكون النهاية عين البداية، أو يكون الرحيل عين الشهود! وتصبح سيرتهم أبقى كثيراً من معنى الزمن، ويتوقف التاريخ منبهراً بالشخص حين يتحول إلى معنى، وبالحياة حين تتحول إلى عبق لا نهائي! وبالروح حين تحلق في فضائها العلوي مستهزئة بما تركت، فرحة بما أدركت!
فسلام على الشهداء في عليائهم.
ولا نامت أعين الجبناء!