غنيٌ عن البيان أن مجتمعاتنا المسلمة لم تعُد قريبة العهد بالعلمانية، بعد أن أضحت الأخيرة تياراً قوياً في كل واحد من بلاد المسلمين، ومن نافلة القول أيضاً: إنها اصطدمت منذ اللحظة الأولى التي تسللت فيها إلى مجتمعاتنا، بمكوّنات العقل الجمعي لأمتنا ووجدانها العام، ما يعني اصطدامها ببعض الركائز والتصورات التي كانت بديهيات ومسلمات راسخة في وجدان الأمة وعقلها الجمعي إزاء جوانب رئيسة من تعاليم الإسلام وجوهره، فما فحوى العلمانية؟ وكيف دخلت إلى بلادنا؟ وما تجلّياتها في ساحاتها؟ وما تداعياتها؟ وكيف اصطدمت بما كان من المسلّمات والثوابت الدينية قبل ظهورها؟ وما السبيل لتفكيك تداعياتها؟
جوهر العلمانية
تتمحور الفكرة الرئيسة للعلمانية حول العلاقة بين الدين والدنيا بوجه عام، أي جميع الأديان، أو الدين كفكرة من ناحية، وبين مختلف الأنشطة الدنيوية من ناحية أخرى، وتتلخص الرؤية العلمانية في هذا الإطار في أن الدين يجب ألا يتعدى كونه مجموعة من القيم الروحانية والإنسانية السامية مثل الصدق، والأمانة، وطهارة اليد.. إلخ، إلى جانب العبادات والطقوس الدينية، وأنه لا يمتلك أي نظرية أو منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية يمكنها قيادة العمل العام على مستوى مفهوم الدولة أو الأمة، ويجب ألا يتدخل كذلك في مختلف الأنشطة الدنيوية الأخرى، كالعلوم والآداب والفنون والرياضة.. وذلك بحكم طبيعته، وينسحب هذا الفهم في أدناه على تفاصيل الحياة اليومية، فأصحاب هذا الفهم يرون أن الحرية المطلقة في الملبس والمأكل يجب أن تكون الجوهر الحقيقي لأي دين.
كيف تسلّلت العلمانية إلى مجتمعاتنا المسلمة؟
معلوم أن العلمانية نبتة غربية محضة، تسلّلت إلى بلادنا المسلمة منذ عقود طويلة، حتى ضربت جذورها في تُرُباتها، وقد عمل الغرب على الترويج لعلمانيته بشتى السبل، بيد أنها لم تتخلل أنسجة مجتمعاتنا ويُمكَّن لها إلا على يد نفر من أبنائها، وهؤلاء الذين حملوا لواءها من أبناء جلدتنا يُصنفّون إلى فريقين، من حيث منطلقاتهم، ودوافعهم، ومقاصدهم في هذا السياق:
1- ثمة فريقٌ تبنّى الطرح العلماني وروّج له وحمل لواءه في بلادنا، من منطلق موضوعي، يتمثل في تأثرهم بالجدلية الدينية السياسية، التي ظهرت بأوروبا في مطلع نهضتها الحديثة، التي تحولت سريعاً إلى صراع واسع وملتهب، شمل حتى المقومات الاجتماعية والعلمية والفكرية لهذه المجتمعات، حول طبيعة الدين ودوره في المجتمع والدولة، وما آلت إليه الأوضاع هناك على إثرها من تحولات جذرية، عُدّت ثورة تحررية على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي والفكري.
اندلعت هذه الجدلية الجذرية، أو الثورة، على خلفية ما كابدته مجتمعات الغرب في عصورها المظلمة من استبداد الكنيسة وكهنوتها، وتسلُّطها على مناحي الحياة كافة، إلى حد أنها كانت تُصْدر النظريات إصداراً في مجالات علمية بحتة بأمر القساوسة، بل ويُتهم كل من يخالف تلك النظريات بالهرطقة والكفر.
فحينما تمسّك العالم الإيطالي جاليليو بالنظرية التي تقول بمركزية الشمس ودوران الأرض حولها، حكمت عليه السلطة الدينية آنذاك بالسجن وعقوبات أخرى قاسية منها الإقامة الجبرية، لأن نظريته تلك تخالف ما كانوا يدّعون بوجوده لديهم في الإنجيل، وبطبيعة الحال فقد أفرزت هذه البيئة نظماً سياسية تتّشح برداء الدين، فالحاكم هو ظل الله في الأرض، وهو يسوس الرعية والبلاد بموجب تفويض إلهي، وبذلك فلا راد لحكمه لأنه ليس سوى صدى لإرادة الرب!
أنهت أوروبا هذه المرحلة الصعبة من تاريخها بأن همّشت الدين تماماً، وأبعدته عن مكامن التأثير في مجتمعاتها ودولها، وبذلك تم تنميط هذه المجتمعات واصطباغها تلقائياً بصبغة دنيوية بحتة ولكنها موحدة، ويكمن السر في هذه الكلمة الأخيرة موحدة، إذ لم تشهد أوروبا من وقتها أي صورة من صور الانقسام المجتمعي بين ما هو ديني وما هو علماني أو دنيوي.
ثم حدث أن تبنّى نفرٌ من بني جلدتنا هذه النظرية، الفصل بين الدين والدنيا، إعجاباً بالأوضاع التي آلت إليها أوروبا في علاقتها بالدين، بالإضافة إلى عامل رئيس آخر ساعد أو شجع هؤلاء على تبني النظرة العلمانية، يتمثل في ربطهم بين التقدم المادي العلمي الهائل الذي تعيشه أوروبا في ظل علمانية مجتمعاتها من جانب، وأوضاع المسلمين الحياتية المتردية من جانب آخر، وهو قياس خاطئ بلا أدنى شك، فلا يعرف الإسلام السلطة الكهنوتية القائمة على تفويض إلهي، ولم تشهد مجتمعاتنا الإسلامية عبر تاريخها ما شهدته أوروبا من تغوّل من يُعرفون في الأدبيّات الغربية بـ«رجال الدين»، فضلاً عن أن أجدادنا المسلمين سطّروا أمجادهم في شتى ميادين الحياة؛ علمياً وسياسياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً، في ظل احتكامهم إلى تعاليم دينهم في كل كبيرة وصغيره، كمرجعية وحيدة حاكمة.
لذا، كان الأولى بهؤلاء أن يبحثوا عن الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى تدهور أحوال المسلمين بعد ذلك، وأفرزت واقعهم المتمادي في الانحدار حتى يومنا هذا.
ينتمي إلى هذا الفريق بالأساس المشدوهون بالتقدم العلمي والمادي لبلاد الغرب، التي تمثل فلسفاتها وأفكارها وتوجهاتها النموذج الملهِم البرّاق لمعظمهم، المتأثرون بثقافتها في مختلف المجالات والحقول في بلادنا، لا سيما الحقول المرتبطة منها بهذه الثقافة، أي تلك التي نبتت أساساً في الغرب، بشكلها الحالي على الأقل، ثم نُقلت إلى مجتمعاتنا بقدّها وقديدها، ولا تزال هذه الحقول في بلادنا على صلة وطيدة بمصدرها الأصلي تستمد منه إلهامها، وتنقل عنه كل جديد، وتقتفي أثره في كل شاردة أو واردة، بالإضافة إلى نسبة ضئيلة من ذوي الاجتهاد الفكري الجاد، الذين أوصلهم اجتهادهم إلى تبني هذه الرؤية، انطلاقاً من تنزيههم للدين عن الدخول فيما يرون أنها ساحات دنيوية تشهد كثيراً من صراعات بعض البشر ودناءاتهم، فضلاً عن أنه لا يجوز إقحام الثابت؛ الذي هو الدين، في المتغير؛ أي الدنيا.
2- أما الفريق الثاني فقد تبّنى أفراده الطرح العلماني من منطلق نفسي ذاتي مرتبط بعلاقتهم بدينهم، وطبيعة مسالكهم في دنياهم ومقاصدهم فيها، وهم المنغمسون في بحر الشهوات.
هؤلاء المنغمسون لا بد لهم من انسجام ما مع ذواتهم ومجتمعاتهم كونهم ينتمون إلى دين له تكاليف وأوامر ونواهٍ فيركنون غالباً إلى تفسير ذاتي للدين يتسم بالرخاوة والمطاطية، بحيث يصطنعون لأنفسهم انسجاماً زائفاً مع ثوابت دينهم ومجتمعهم، وبعد أن يتأصل هذا المعنى ويتجذّر في نفوسهم مع مرور الزمن وتراكم الحالات المتشابهة ينظرون إلى كل من يدعو إلى مجرد التمسك بصحيح دينه وثوابته على أنه متشدد، متطرف، مع أن هؤلاء المنغمسين لا يعادون الدين في معظمهم.
في هذا السياق، يختلف الأمر تماماً بالنسبة للمجتمعات التي تنتشر فيها الديانات التاريخية، أو الأرضية كما يُطلِق عليها البعض؛ إذ لم يواجه أحدها إشكاليات من هذا النوع أبداً، ومن غير المتوقع ولا الطبيعي أن يحدث فيها يوماً ما.