تملك الأمة الإسلامية من مقومات النهضة والبناء الحضاري ما لا يملكه غيرها من الأمم؛ تملك الوحي الإلهي المحفوظ الذي لم يتطرق إليه تغيير ولا تبديل، وهي تملك النسخة الأخيرة من ذلك الوحي التي تجاوزت خطاب زمان بعينه أو مكان بعينه أو قوم بخصوصهم إلى الآفاق العامة الرحبة الواسعة التي توجه فيها الخطاب للحياة الإنسانية بعمومها زمانًا ومكاناً وأعراقاً.
والمسألة هنا تتجاوز تماماً إشكالات الصراع التقليدي بين أتباع الديانات إلى مستوى أعمق من ذلك بكثير، فالإسلام عقيدة وشريعة رسخ منظومة قيمية سامية تسع الناس جميعاً بل تسع الكون جميعاً.
فوفقاً لتصور الوحي، لا تعاني الأرض ندرة من الموارد ولا شحاً من الإمكانات يجعلها تضيق بساكنيها كما يعتقد آخرون، ولا يرى المسلمون أن الأرض لا تسع معهم غيرهم، بل يؤمنون أنها تكفي جميع الخلائق وفقاً لقوله تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) (فصلت: 10).
لا يرى المسلمون أنه لا بد من التخلص من بعض البشر الذين يمثلون عبئاً زائداً ليتمكن الآخرون من العيش كما يشتهون!
لا يؤمن المسلمون بأن الغاية من الوجود البشري هي تحقيق الرفاهية المطلقة التي لا تأتي إلا على تلال من الجماجم والأشلاء البشرية وسرقة لثروات الآخرين بقوة السلاح!
يؤمن المسلمون أنهم ودينهم ونبيهم ما كانوا إلا رحمة للعالمين، يؤمنون أن الغاية من الوجود البشري هي عبادة الخالق وعمارة الأرض واجتياز الاختبار الأخلاقي الذي تمثله الحياة الدنيا بنجاح وكفاءة، وهذه الثلاثية هي التي تمثل في مجموعها حقيقة الاستخلاف الإلهي للإنسان.
يتعبد المسلمون إلى الله بإصلاح الحياة وببذل الخير للآخرين، ويتعبدون إلى الله بتنمية موارد الأرض وترشيد استخدامها دون إسراف أو تبذير بحيث تكفي الجميع.
يؤمنون بأن غاية الوجود الإنساني في الدنيا ليست طلب النعيم، وإنما عمل الخير بمفهومه الواسع.
وفي مقابل الرفاهية التي يتغياها الآخرون، يطرح الإسلام مفهوم الكفاية التي تعني توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لجميع البشر.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ أنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، ولا تُلامُ علَى كَفافٍ» (رواه مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي).
وإذا سلمنا أن التوحيد هو القيمة المركزية في الرؤية الإسلامية، فإنك تعجب أمام هذا المصطلح الفريد الذي لا تقتصر دلالته على إفراد الله وحده بالألوهية، فيكون التوحيد بمعنى وحدانية الله، إنما تتعدى ذلك إلى توحيد الجماعة البشرية كلها في أصل الخلق، وفي أنهم جميعاً أبناء آدم توحدهم الخلقة الأولى الواحدة، ويوحدهم مبدأ أنهم جميعاً عبيد لله وحده، فلا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، ولا يتعالى بعضهم على بعض، ولا يستبد بعضهم بعضاً.
إن منظومة القيم المبثوثة في الوحي الشريف ليست مجرد قيم فردية أو اجتماعية لبناء المجتمع المسلم، وإنما هي قيم لبناء الحضارة والحياة الإنسانية، وإذا كان الآخر الحضاري قد انطلق من مقدمات عقدية ارتضاها لنفسه تؤمن بأن هذا الكون مادة محضة وتحد الغيب كله فتؤمن بالإنسان ولا تؤمن بالله وتؤمن بالدنيا ولا تؤمن بالآخرة وتؤمن بالجسد ولا تؤمن بالروح وتؤمن بالمنفعة ولا تؤمن بالمسؤولية وتؤمن بالحرية ولا تؤمن بضوابطها.
وعلى الرغم من فداحة الخلل في هذه المفاهيم، فإن المشروع الحضاري الغربي قد انطلق منها، وأحدث مراكمة معرفية ضخمة، وصاغ من هذه الأفكار نماذج حضارية متحركة عبرت عن قناعاته، فكانت الرأسمالية الاقتصادية انعكاساً لهذه الأفكار في عالم المال، وكانت الليبرالية الاجتماعية هي علمانية المجتمع، وكانت الديمقراطية السياسية بمنظومتها الفكرية الكاملة انعكاس تلك المعتقدات في عالم السياسة.
فإنه قد آن للأمة المسلمة أن تتجاوز مرحلة الكسل المعرفي التي عاشتها في القرن وربما في القرون الأخيرة، وأن تبدأ السعي لامتلاك رؤية حضارية شاملة لا تقتصر على مستوى الأفكار العامة والنظريات المجردة -على ما لذلك من الأهمية- وإنما تتجاوزه إلى بناء النماذج الحضارية المنطلقة من عقيدتها ومن وحي ربها ومن رؤيتها الشاملة للكون والإنسان ولوظيفة المسلمين في تحقيق الرحمة العامة للعالمين.
آن للمسلمين أن يرسموا ملامح نظام اقتصادي يتجاوز دائرة الربا المغلقة وسعيها المحموم لكنز أكبر قدر من الأموال، إلى قيم الإسلام الرحيمة في مداولة المال على أوسع نطاق، وضخه في أوصال المجتمع ليحقق وظيفته الاجتماعية في إقامة الحياة كما في قوله تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء: 5).
وأن لهم أن يبنوا نموذجاً سياسياً يعكس خضوع الحاكم والمحكوم لسلطان الوحي وتحقيق الشورى الجامعة، وتمكين الأمة من إدارة شأنها العام بدون وصاية من أي نخبة على إرادة الأمة، وبناء النظام الاجتماعي يقوم على التراحم والتماسك ووحدة الصف والمسؤولية المشتركة لأبناء المجتمع عن بلدهم وحياتهم ومستقبلهم.
وعلى المسلمين أن يدركوا أن الحضارات تتنافس، وأن ذلك هو قانونها الأساس، وأن البشرية أحوج ما تكون إلى البديل الحضاري كما أسماه مراد هوفمان رحمه الله، وأن أهل الإسلام وحدهم يملكون مقومات طرح ذلك البديل، شريطة أن توجد الإرادة وتتحرر العقول من أسر التبعية ومن دوامة الهزيمة النفسية، وشريطة أن تعود إلينا الثقة في الذات الحضارية التي تلاشت أو تكاد.