من الاستضعاف إلى التمكين ينطلق قطار التغيير، مزوَّداً بوقود الإيمان والصبر، ينطلق في مسيرته غيرَ آبهٍ بما يعترضه من عقبات وعقابيل، يمضي على هدى في طريق طويل، طريق -رغْم وعورته- مُؤْنس، ورغم ما يحُفّه من أخطار مأمون العاقبة، وقطار التغيير هذا يمرّ في طريقه بمحطات مفصلية ومراحل شبه حتمية، ولكل محطة مناراتها العقدية والشرعية والفكرية، ولكل مرحلة فقهها الذي ينظم العمل فيها.
فَمِن الدعوة المتَّئِدَة التي تتلقى فيها القاعدةُ الصلبة تعاليمَ الإسلام على مُكْثٍ وتتربى بها على رَيْث، إلى الدعوة المنطلقة التي تزلزل أركان الباطل وتحطم الأصنام في قلوب الطغام، وتخوض الصراع العقديّ والفكريّ بقوة البيان وسطوع البرهان، ثم إلى التغيير ومواجهة الباطل بما يليق به من آليات المواجهة، وأخيراً إلى البناء الذي يكون بعده انطلاقة حضارية على أسس ربَّانية؛ فما ملامح الطريق؟ وأين سورية من ذلك؟
السعي للتمكين.. طريق الأولين
منذ بدء الخليقة والصراع بين الحقّ والباطل محتدم لا يهدأ ولا يفتر، فالباطل طالبٌ للحق مطلوبٌ له، وسعي كل منهما للتمكين وللتمكن من غريمه دائب ودائم، وسُنة التمكين تمضي على سنن ونواميس إلهية لا تحابي أحداً من الناس مهما كانت منزلته ولا جماعة من البشر مهما كان مقامها.
ضرورة أن يتوافر لدى قادة الثورة قدر كبير من الفقه والفهم ومعرفة الواقع وإدراك المرحلة
لذلك، وجدنا القرآن يحمل لنا أخبار أمم من أهل الباطل والكفر والضلال مكّن الله لهم، وجاءت الأخبار في كتاب الله مفصلة، وجاءت كذلك مجملة كما في قول الله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (الأنعام: 6)، وذكر في المقابل أخباراً عن أهل حقٍّ مكن الله لهم، كيوسف، وسليمان، وذي القرنين، وبدا من سياق الأخبار القرآنية أنّهم سعوا للتمكين سعياً حثيثاً.
غير أنّ القرآن اعتنى ببيان طريق التمكين، عن طريق بيان شروطه الكبرى الرئيسة، ونستطيع باستقراء القصص القرآنيّ للأنبياء الذين مُكنوا أن نستخلص شروطاً ثلاثة أساسية:
الأول: عبادة الله وحده بلا شريك، وتوحيده في كل شيء بما في ذلك الحاكمية، وهذا الشرط (العبودية لله وحده) جاء مصرحاً به في سورة «النور»، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
الثاني: الاستعلاء على الفتن بكافة صنوفها، وهذا يستفاد من سورة «يوسف» التي تحكي قصة نبي الله يوسف، فقد تعرض يوسف عليه السلام لجميع ألوان الفتن؛ فتنة النساء، وفتنة السجن، وفتنة اضطهاد الأخوة، وفتنة الكرسي والملك والغلب، ومن تتبع كل هذه المواقف علم يقيناً أنّه استعلى عليها بإيمانه ويقينه، فنال التمكين: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 56).
من الأولويات القضاء على الفساد وإقصاء جيوب النظام من الحياة السياسية وتحقيق القصاص
الثالث: التحول والانتقال إلى خطوط المواجهة الأمامية على كافّة الأصعدة، وترك القعود والركود في المناطق الآمنة، وهذا الشرط نفهمه من سورة «القصص»؛ إذْ بعد أن بشر الله تعالى بالتمكين في قوله في مفتتح السورة: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص: 5)، جاء الخبر برسوّ الصندوق وبه موسى الرضيع في حجر الفرعون، وكان التعليل: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً) (القصص: 8).
الثورة السورية.. وآفاق التمكين
ما إنْ هبت رياح الموجة الأولى من «الربيع العربي» حتى فوجئ العالم الإسلاميّ بأنّ أرض الشام المباركة -على رغم القهر والعسف- أنبتت ثلة مباركة من الشباب الطامحين في التغيير وفي الخروج من الاستضعاف إلى التمكين، لم يستطع نظام الأسد بجبروته وطغيانه أن يحول دون ميلاد الجيل المبارك، ولا في ردّ ثورته على أعقابها، لقد مضوا في ثورتهم مستوفين للشروط الثلاثة؛ العبودية لله وحده، والاستعلاء على الفتنة، والنزوع نحو المواجهة، وبعد جهاد طويل تعرضت فيها سورية لأهوال كالجبال جاء النصر والفتح المبين.
غير أنّ هذا الفتح وهذا النصر ليس سوى مقدمة لسلسلة طويلة ومتدرجة من التحولات الوثّابة، ونكاد نجزم أنّ كلّ ما مضى -على الرغم من ضخامة التضحيات وجسامة التكاليف- هو الجهاد الأصغر، وأنّ ما يستقبله الشعب السوريّ هو الجهاد الأكبر، فلا يعني الانتصار على بشار وإسقاط نظام الأسد إلا بداية الطريق إلى التمكين الحقيقي.
فمن المؤكد أن سورية ليست متروكة لاختيارها وليست موكولة لإرادتها الحرة؛ لذلك يجب أن تتمسك بحريتها واستقلالها، وأن تعتصم بحقها في تقرير المصير دون إملاء من أيّ جهة؛ ولكي يتسنى لها ذلك -والوضع هكذا- يجب أن يتوافر لدى القادة العسكريين والسياسيين والشرعيين للثورة قدر كبير من الفقه والفهم ومعرفة الواقع وإدراك المرحلة بكل مقوماتها وملامحها، حتى يمضي قطار التمكين إلى غايته بخطة تقوم على منهجين متكاملين؛ التدرج وعدم التسويف.
سورية.. والمشروع الإسلامي
يمر المشروع الإسلامي الذي يسعى للاستخلاف والتمكين بمراحل ثلاثة رئيسة، الأولى: مرحلة الإعداد، الثانية: مرحلة التغيير، الثالثة مرحلة البناء، والإعداد يشمل بناء النواة الصلبة لطليعة الأمة، وفي قلبها النواة الصلبة لأهل الحل والعقد في الأمة، كما يشمل بناء الأنسجة المجتمعية في دوائر متراكمة فوق صلب هذه النواة، ويشمل أيضاً إعداد القوة العلمية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.
السعي لإقامة نظام يحقق العدل ويعطي الحرية للدعوة إلى الإسلام ويميط عن الناس الظلم
والأمة الإسلامية بأسرها تعيش هذه المرحلة، بما فيها سورية؛ ما يعني أنّ فقه مرحلة الإعداد يجب أن يستصحب كاملاً، دون تعجل أو ارتجال، ودون إهدار للفرص، فهنا أولويات لا بد من تقديمها، على رأسها تنقية البلاد من الفساد، وتطهير أجهزة الدولة من المفسدين والمجرمين، وإقصاء جميع جيوب النظام الأسديّ من الحياة السياسية بالكامل، وتحقيق القصاص العادل (الناجز) من كلّ من تورط في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
ولا ريب أن إقامة نظام إسلامي يقوم على تحكيم الشريعة هو الغاية الكبرى التي يجب أن تستصحب دائماً، لكن: هل هذا مستطاع؟ هل هو في مكنة الثوار؟ هل سيتركهم العالم الذي يحاصرهم من كل زاوية ويتغلغل في أحشاء دولتهم ومجتمعهم؟ هل سيتركهم يعلنوها إسلامية صريحة؟
إن رأوا أنّهم يستطيعون وجب عليهم المبادرة والتعجيل، ولم يجز لهم التأخر ولا التأجيل، وإذا لم يستطيعوا، ورأوا أنّهم إن تعجلوا اعتاصت عليهم، ودخلوا في دوامة الفتن التي سوف تثار عليهم، فإنّ الأصل أنّ التكليف منوط بالاستطاعة؛ (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) (البقرة: 286)؛ وعندئذ وجب السعي لإقامة نظام يحقق العدل بقدر الإمكان، ويعطي الحرية للدعوة إلى الإسلام، ويميط عن الناس الظلم، ويهيئ للمراحل القادمة؛ عملاً بقاعدة: «الميسور لا يسقط بالمعسور».
وهم أكثر الناس إدراكاً بمدى قدرتهم على ذلك، وأكثر الناس معرفة بالمصالح والمفاسد التي تحفّ بواقعهم، فيجب أن يوازنوا بدقة بين المصالح والمفاسد، وأن يختاروا أهون الشرين، وأن يستأنسوا بمشورة العلماء الربانيين الذين أثبتت التجارب السابقة صدقهم وأمانتهم على العلم.