مما لا شك فيه أن تركيا الحديثة هي ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية على ارض الاناضول و التي عمرت اكثر من ستة قرون (1299-1923م) و امتدت في ثلاث قارات , و كانت عاصمتها القسطنطينية (إستانبول) و شهدت أوج مجدها أيام السلطان الفاتح سليمان القانوني (1520-15
مما لا شك فيه أن تركيا الحديثة هي ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية على ارض الاناضول و التي عمرت اكثر من ستة قرون (1299-1923م) و امتدت في ثلاث قارات , و كانت عاصمتها القسطنطينية (إستانبول) و شهدت أوج مجدها أيام السلطان الفاتح سليمان القانوني (1520-1566م) .
إنتهت الإمبراطورية العثمانية ذات الهوية الإسلامية بإنتهاء الحرب العالمية الأولى, و كان من اغرب ما صاحب نشوء الجمهورية التركية عملية مسخ ثقافي و تاريخي و إجتماعي و ديني قام به مؤسس الجمهورية كمال اتاتورك (الرجل الصنم) بحجة العلمانية و الحداثة و اللحاق بالركب الأوروبي و كان لهكذا فترة طويلة أن تفرز شعرا و ثقافة و فنوناً و عمارة متميزة, فاعلنت الحرب بكل ما تعنيه الكلمة على ماض عميق و تاريخ طويل ليجد الشعب التركي نفسه في حالة نفسية و ثقافية ممزقة لم يسبقه إليها احد من الشعوب من قبل و إلى عملية فقدان ذاكرة تم التخطيط لها بمكر و دهاء بالغين.
والإسلام هو العمود الفقري لعموم الشعوب التركية التي لها ماض عريق في الدفاع عن الإسلام و نشره, فقد كانوا قبل الإسلام قبائل رعوية في أواسط أسيا تدين بالطوطمية.
تم منع كل ما يمت للاسلام بصلة و اغلقت المساجد و صار الاذان باللغة التركية و كذلك القران, لقطع الطريق بين الماضي و المستقبل فقد تم تغيير الحرف العربي_الاسلامي بالحرف اللاتيني بعملية خاطفة و في ليلة و ضحاها فقدت اللغة معظم مفرداتها و استبدلت بمفردات طارئة, و صار الدين و التاريخ عارا على من يعتقد بهما, و تحول جامع ايا صوفيا رمز فتح القسطنطنية (1453 م) على يد محمد الفاتح الى متحف, و تحت راية الاستقلال الذي خطط له بإتقان لاخراج هذه المسرحية.
وقد تمت على مراحل مبرمجة بواسطة القوى الماسونية المتنفذة بدأت بعزل السلطان عبد الحميد الثاني (1909م) ثم إدخال الإمبراطورية في أتون الحرب العالمية الأولى لتخرج مهزومة ذليلة ثم التوقيع على معاهدة لوزان المذلة عام 1922م بجانب العلمانية التي أخذت مفهوم إستئصال الدين و الديمقراطية مورس أقسى أنواع الارهاب و القسوة لتمرير هذا المخطط, حتى ان صاحب كتاب “الرجل الصنم” يذكر بأن احد الكتاب كان قد كتب مقالا حول تحريم استبدال العمامة بالقبعة الاوروبية بسنة قبل صدور القرار الحكومي بوجوب استبدال العمامة بالقبعة و تم الحكم عليه بالاعدام شنقا في مكان عام.
بهذه الاساليب حاولوا مسخ الهوية التركية _ الاسلامية, فقد كانت كلمة “مسلم ” رديفة لكلمة
“تركي” في الادبيات الاجنبية و خصوصا الاوروبية.
وصار اول تحرك على المستوى السياسي نحو التغيير عندما فاز الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس و جلال بايار بالانتخابات البرلمانية عام 1950 فوزا كاسحا و ما تبعه ذلك من فوزين متتالين عام 1954 و عام 1957 حتى اطيح بهما بإنقلاب عام 1960 و حكم على مندريس بالاعدام في واحدة من اكثر النقاط سوداوية في التاريخ التركي الحديث.
اعاد عدنان مندريس رحمه الله الاذان و قراءة القران باللغة العربية و فتح مدارس الائمة و الخطباء و سمح بالحج, و تجرأ في احدى جلسات البرلمان و نطق بأسم الجلالة , و عندما زار بغداد عام 1956م زار ضريح الامام ابو حنيفة النعمان في الاعظمية و قرأ له الفاتحة, و قال امام جمع من الصحفيين مخاطبا الضريح: لقد اسست امبراطورية عظيمة و كانت اشارة ذكية لامجاد الدولة العثمانية التي تسير على المذهب الحنفي.
لم تمت المشاعر الاسلامية داخل التيارات السياسية الاسلامية التركية التي كان على رأسها المرحوم نجم الدين أربكان الاب الشرعي للاحزاب ذات التوجهات الدينية و استطاعت هذه الاحزاب ان تشق طريقها وسط الاعصار الماسوني و العلماني داخل تركيا الى ان تبوأ الصدارة حزب العدالة و التنمية بزعامة تلاميذ اربكان عام 2002م رغم وجود اختلافات مع الاب الروحي لهم و هم يقودون تركيا من نجاح لاخر في معظم المجالات, و بعد ان ترسخت اقدامهم داخل المجتمع التركي اقليميا و دوليا, بدأوا يظهرون للعالم هويتهم الاسلامية من خلال تبنيهم للحركات الاسلامية و من خلال اساليب شرعية ليس أقلها صناديق الاقتراع, فأردوغان نفسه خريج مدارس “امام و خطيب” و هو قارئ ممتاز للقران و لا يخفي مشاعره الاسلامية مطلقا.
لقد شجع النجاح الذي صاحب بروز نجم العدالة و التنمية بقيادة رجب طيب اردوغان في المجالات الاقتصادية و السياسية للمضي نحو ارجاع الهوية التي كادت ان تضيع خلال ثمانية عقود من الصراع الخفي و العلني.
وكان من ابرز علامات النجاح رجوع ظاهرة الحجاب في الشارع التركي و بشكل ملفت للنظر, حتى بلغت نسبة المحجبات في المدن الكبرى كأستانبول اكثر من 50% في حين كانت تكاد معدومة في ثمانينات القرن الماضي !
و الزائر للمدن التركية الان يلاحظ بدون عناء حجم البناء و التجديد في الجوامع و المساجد, و ازدادت اعداد مدارس الائمة و الخطباء و الطلاب فيها حتى بلغوا عشرات الالوف.
وفي الاونة الاخيرة ظهرت مقترحات لارجاع دروس الدين الاسلامي في المدارس الثانوية, حيث اشار وزير التربية و التعليم ناجي اوجي ان وزارته ستقوم بدراسة موضوع التدريس الاجباري لمادة الدين في مدارس الدولة بعد اصدار محكمة حقوق الانسان الاوروبية قرارا بمنع اجبار الطلاب على دراسة هذه المادة, فصارت هذه المؤسسة الاوروبية و غيرها حجر عثرة امام استرجاع الهوية الحقيقية لتركيا تحت التلويح بعدم قبول تركيا في الاتحاد الاوروبي, و هو ما لم يعره السيد اردوغان اهتماما يذكر في الاونة الاخيرة, لان زمن الرجل المريض قد ولى.
اما في الداخل فإن التيارات العلمانية و على رأسها زعماء حزب الشعب الجمهوري و جلهم من العلويين يعارضون التوجهات الدينية و قد قاموا في 12-10-2014 بتظاهرة في انقرة مطالبين بعدم تدريس الدين الاسلامي و اعتبار ديانتهم موازية للاسلام !
واما اهم معركة تخوضها العدالة و التنمية فهي معركة ارجاع اللغة التركية العثمانية, فقد قال السيد اردوغان بحزمه المغروف بأن الذين يرفضون تعليم اللغة العثمانية في تركيا عليهم ان يدركوا بأن العثمانية ستدرس لا محالة في تركيا, و اضاف اردوغان منتقدا الذين يتساءلون عما اذا كان تعلم هذه اللغة سيفيد الاتراك في قراءة شواهد القبور فقط, قال بأن هذه القبور عبارة عن تاريخ حضارة سادت لمئات السنين, حيث يصعب على الجيل الجديد قراءة كل تراث اجداده, و ان المواقف السلبية تعبر عن جهل مطبق عن مرونة اللغة العثمانية التركية التي تبلورت خلال مئات السنين و لم يتعلمها الشعب التركي او تفرض عليه بقرارات جائرة و بالقوة, و هي لغة مرنة و قريبة للروح التركية. .
لقد انتشرت مراكز تعليم هذه اللغة في المدن الكبيرة بشكل كبير و تزايد اعداد الراغبين بدراستها بشكل مثير, و قد استغرب احمد جيالي اشهر داعية في تركيا من الاصوات النشاز الداعية لمنع مشروع اجبارية لتعليم اللغة العثمانية في المرحلة الثانوية, و قال بأن مكتبات الغرب مملوءة بالكتب العربية العثمانية و لديهم من يقرأها و يحققها و يمنعوننا من قراءة تراث اجدادنا طيلة تسعين سنة و نحن لا نجيد غير انتاج الافلام و المسلسلات التي تسيء لتاريخنا ملمحا لانتشار المسلسلات التلفزيونية التي تحصر الخلافة الاسلامية في غرف الحريم.
وفي افتتاح اول مسجد جامعي بجامعة ولاية بينغول الواقعة شرق تركيا, قال الدكتور محمد كورماز رئيس الشؤون الدينية التركي بأن المساجد و الجامعات جزءان لا يتجزءان, حيث ان الجامعة تغذي عقول الامم و المساجد تغذي قلوبها, و حرمان الجامعات من المساجد كان من اهم ما ينقص مجتمعنا التركي.
وقد يبدو هذا الامر غير جدير بالاهتمام و لكن بالنسبة للمتتبعين للشان التركي فهو ذو مغزى عميق, فالجامعات التركية هي بؤر الماسونية و الصهيونية, و ان لقب الاستاذية كان محصورا بمن ينتمي لهذه التيارات و قد سماهم الرحوم مندريس ” ذوي الاغطية السوداء ” و هم الذين اعطوا الغطاء الدستوري لانقلاب عام 1960 م و الذي من نتيجته اعدام مندريس و كان الطلاب انذاك و تحت لواء التقدمية و اليسارية اداة بيد من يدير هذه الجامعات .
ان هذه المواقف للسيد اردوغان و من يؤيدها سيسجلها التاريخ كواحدة من اهم نقاط الانقلاب في التاريخ الاسلامي عموما, حيث بدأت هذه الشعوب تستعيد هويتها التي تحاول المنظمات المشبوهة طمسها بظاهرة الارهاب, و عليه فليس من المستغرب ان تصعد شعبية اردوغان في الاونة الاخيرة الى 70%