أعلن باحثون في جامعة برمنجهام البريطانية عن عثورهم على صفحات من نسخة من مصحف، وبفحصها بالكربون المشع، تبين أنها الأقدم في العالم؛ حيث تعود لما يفوق الـ1370 عاماً، وحسبما ذكرت مصادر إعلامية بريطانية، فإن هذه الأوراق موجودة في مكتبة الجامعة منذ قرن من الزمان، ولم يهتم بها أحد، وتم حفظها ضمن مجموعة من المخطوطات والوثائق الخاصة بالشرق الأوسط، حتى لفتت نظر أحد طلبة الدكتوراه وتم إخضاعها للفحص بالكربون المشع في وحدة تقنية بجامعة أكسفورد، وتبين أن النص مكتوب على جلد الغنم أو الماعز بالخط الحجازي، والمعروف بأنه من أقدم الخطوط العربية، ومن أقدم نصوص القرآن الكريم الموجودة في العالم.
وللعلم يمكن لتقنية الكربون المشع أن تحدد عمر الأشياء بنسبة 95%، ووفقاً للفحص الذي جرى على المخطوط، فإنه يعود إلى ما بين عامي 568 و645م، فيما نزل الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في الفترة ما بين عامي 610 – 632م؛ وهو ما يعني أن الشخص الذي قام بكتابة هذه المخطوطات عاش في زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنه عرف النبي، وربما كان مقرباً منه، أو من خلفائه الراشدين وتحديداً الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (644 – 655م) الذي جمع القرآن الكريم، بحسب قول البروفيسور «ديفيد توماس»، الأستاذ المختص بالمسيحية والإسلام في جامعة برمنجهام.
ويقول محمد عيسى والي، خبير المخطوطات في المكتبة البريطانية: إن هذا الاكتشاف مذهل وسيدخل السعادة في قلوب المسلمين، هما لفافتان مكتوبتان بخط حجازي جميل ومقروء، تعودان بكل تأكيد إلى زمن الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل.
وكانت هذه المخطوطات ضمن أكثر من 3000 مخطوطة ووثيقة جمعها «ألفونس مِنكَنا»، القس الكلداني الكردي، ونقلها إلى مكتبة «سيلى أوك» في جامعة برمنجهام في بريطانيا في زيارتين متتاليتين إلى العراق في عامي 1924 و1925م على التوالي، من بينها 2317 مخطوطاً عربياً، و606 مخطوطات سريانية وكرشونية مع مجاميع أخرى.
القس «منكنا»
و»ألفونس مِنكَنا» هو هرمز بولس مِنكنا أو منكانا، وولد في 23 ديسمبر 1878م في قرية شرانش العليا (نصارى) الواقعة على بعد 22 كم شمالي مدينة زاخو التابعة لمحافظة دهوك في كردستان العراق، وتوفي في 5 ديسمبر 1937م في مدينة برمنجهام البريطانية، كان والده قسيساً كلدانياً في قرية شرانش، ومنذ صغره أرسله والده وعمره 12 عاماً ليدخل معهد «مار يوحنا الحبيب» الذي تأسس في مدينة الموصل سنة 1858م، لكي يتخرج ويصبح قسيساً.
وكان هرمز فتى ذكياً مثابراً في تحصيل العلم، يحب المطالعة، ويعشق تعلم اللغات وقراءتها، فخلال دراسته الأولية أتقن اللغات التركية والسريانية والعربية، كما كان ملماً بالكردية، وعندما التحق بمدرسة «الآباء الدومنيكان» سرعان ما تعلم الفرنسية والعبرية، وكان متقدماً في دراسته، وقد رُسم قسيساً سنة 1902م، واختار له اسماً جديداً وهو «ألفونس»، وهو تقليد درج عليه رجال الدين من المسيحيين ليفرقوا بين الفترتين المدنية (العلمانية) والدينية التي تتميز بالتقشف والتبتل (كما يفترض)!
وبعد أشهر من ممارسته الدينية في شرانش، اختير من بين الخريجين لإتقانه كتابة اللغة السريانية ليحل محل أستاذه في المدرسة الدينية العالية الأب «أوجين منا» (المتوفى سنة 1928م) الذي أصبح مطراناً، ولم يكد يدرس لفترة وجيزة حتى عُهد له أيضاً تصحيح الكتب المدرسية باللغات التركية والعربية والفرنسية التي كانت تطبعها مطبعة «الآباء الدومنيكان» في الموصل وتأسست سنة 1858م.
أدرك «ألفونس مِنكَنا» أن السريان القدماء خلفوا كتباً عديدة مهمة في العهد الفارسي الساساني، بين القرنين الثاني والسابع الميلاديين، فراح يبحث عنها في الأديرة والكنائس القديمة في بغداد والموصل وأربيل وزاخو وديار بكر التركية، ويستنسخ ما يستطيع منها، وخلال هذه الفترة ألف بضعة كتب ودراسات تاريخية بعضها بمشاركة مستشرقين إنجليز وفرنسيين.
محاولات ربط القرآن بالآرامية
ويرجع اهتمام «ألفونس مِنكَنا» بمخطوطات القرآن الكريم إلى اعتقاده بأن اللغة السريانية خليفة اللغة الآرامية القديمة لها تأثير مباشر على مصطلحات وأسماء الأعلام القرآنية؛ وحتى في بعض المفردات الأساسية القرآنية، وكانت نتيجة هذه الجهود، واطلاعه على كتاب «دراسات محمدية» للمستشرق اليهودي المجري «كولدزيهر» (المتوفى سنة 1921م) الذي كان أول من شكك في الأحاديث النبوية، أثراً كبيراً في تأليفه كتاب «التأثير السرياني في أسلوب القرآن»، ونُشر كدراسة بالإنجليزيّة سنة 1927م تحت عنوانSyriacInfluenceontheStyleoftheQur’an، وقد زعمت هذه الدراسة هيمنة المعجم السرياني على لغة القرآن بنسبة وصلت إلى 70%، بينما توزعت بقية النسب على الحبشيّة (5%)، والعبريّة (10%)، واليونانيّة القديمة (10%)، والفارسيّة (5%)؛ والحقّ أنّ «مِنكَنا» لم يبنِ عمله على مستندات علمية في البحث أو على بحث دقيق يمكن الاطمئنان إليه.
وحين لاحظ المستشرق الأسترالي «آرثر جفري»ArthurJeffery (المتوفى سنة 1959م) أن «منكنا» أرجع قسماً من «الدخيل في القرآن» إلى أصول سريانية، كتب سنة 1938م «معجم المفردات الأجنبية في القرآن»، وصدر الكتاب في طبعته الأولى بالإنجليزيّة سنة 1938م تحت عنوان TheForeignVocabularyoftheQuran، وأكد فيه أن المسيحية المعروفة للعرب قبل الإسلام كانت من نموذج سرياني هو النموذج اليعقوبي (منوفستي – أصحاب الطبيعة الواحدة) أو نسطوري، ولاحظ أيضاً أن نصوصاً إسلامية متعددة تذكر اتصالات محمد صلى الله عليه وسلم مع مسيحيين سريانيين أو عرب!
كما أعلن أن هناك 314 كلمة دخيلة على المعجم القرآني رتّبها حسب حروف المعجم في العربيّة، وقام منهجه على الخطوات الثلاث التالية؛ أُولاها: رصد معنى الكلمة الدخيلة في عدد من كتب التفسير القرآنيّ (خاصّة تفاسير الطبري والزمخشري والبيضاوي)، ومن كتب علوم القرآن (خاصّة «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي)؛ وثانيها: تعيين معنى الكلمة لغة في المعاجم العربيّة، مثل «لسان العرب» لابن منظور و «المعرّب» للجواليقي؛ والثالثة: ضبط أصول الكلمة موضوع الدرس في السريانيّة الآراميّة والعبريّة وذلك بإثبات رسمها وتعيين دلالتها.
غير أنّ هذا التمشّي المنهجيّ الذي أقام عليه «جفري» بحثه يبقى محدودَ الجدوى، وعلّة ذلك أنّه لا يمكن الاستدلال على مرجعيّة لغويّة لنصّ ما بالتعويل على ما أُلِّفَ لاحقاً (تعيين معنى كلمة قرآنيّة بالرجوع إلى «لسان العرب» لابن منظور) مثلاً حسب الباحث التونسي بسام الجمل.
وهذا الخلل المنهجيّ لم يسلم منه أيضاً الكاتب الألماني السوري الأصل الذي يوظف اسماً مستعاراً «كريستوف لوكسنبارج» في كتابه الذي تبنى فكرة «منكنا» حول التأثير السرياني والذي أثار جدلاً واسعاً بين الدارسين الغربيين، وهو بعنوان «قراءة سريانية آراميّة للقرآن: مساهمة في فكّ شفرة اللغة القرآنيّة» (الطبعة الأولى بالألمانيّة سنة 2000م) تمت ترجمته إلى الإنجليزيّة سنة 2002م بعنوان:
TheSyro–AramaicReadingoftheKuran: aContributiontotheDecoding) (oftheQuranicLangage.
ويعمد «لوكسنبارج» في مرّات عديدة إلى تغيير حروف بعض الكلمات مع المحافظة على رسم الكلمة قبل الإعجام، وهو بذلك يستعيد صورة المصاحف الأولى، ويبدّل أحياناً مواقع الحروف في الكلمة موضوع البحث الفيلولوجي (ما يعرف بفقه اللغة المقارن)، بل ويغيّر كلمات برمّتها.
والحقّ أنّ التحرّيات الفيلولوجية التي أنجزها «لوكسنبارج» بالشكل الذي ذكرنا سابقاً، كانت سبباً مباشراً في أن توجّه إليه عدّة انتقادات؛ من أهمها: اختياره المنهجيّ المقلوب بتعويله على «لسان العرب» في فكّ غموض معنى الكلمة القرآنيّة، ومنها ردّه غموض بعض الكلمات القرآنيّة إلى أخطاء في الرسم، وفي ضبط القراءة المناسبة تعليل لا يمكن قبوله؛ إذ من المستبعد أن يذهل العلماء المسلمون عن أخطاء محتملة من هذا القبيل طيلة ما يزيد على أربعة عشر قرناً، ومنها أيضاً طغيان النزعة التخمينية على بحثه الفيلولوجي، فضلاً عن عدم استفادته من حصيلة جهود قرنين من الدرس الفيلولوجي بما أنّه لا يبني عمله على البحوث السابقة في هذا الباب، فقد درس حوالي 75 حالة وردت في المصحف، وتبنّى فرضيّة وجود ما يُسمّى بـ «قرآن أصلي» استُعملت فيه عدّة تعابير سريانيّة؛ أي إنّ في القرآن فقرات عديدة لم تُكتب أصلاً بالعربيّة، بل كُتِبت بما يسمّيه «لغة مزيج» جمعت بين العربيّة والآراميّة.
وغني عن القول؛ أن هناك اختلافات بين نصوص القرآن الواردة في المخطوطات القديمة قبل التنقيط والتحريك، والمصاحف التي هي الآن بين أيدينا، إلا أن هذه الاختلافات تنحصر في أنواع الخطوط العربية وتنقيط الأحرف، وطريقة ضبط الكلمات وتشكيلها؛ فالاختلافات ليست في المضمون وإنما في طريقة الكتابة الموجودة، وتتعلق بالخطوط العربية وعلامات الضبط والتجويد، والعلامات النحوية التي ظهرت في مراحل تاريخية متأخرة؛ وعلى ذلك فهي خلافات تتعلق بالشكل وطريقة التدوين وليس لها علاقة بنصوص القرآن الكريم.
وتصعب قراءة هذا النوع من الكتابة إلا على المتخصصين في الخطوط؛ إذ ينعدم فيه التنقيط تماماً، ويكون على القارئ أن يدرك أياً من هذه الأحرف هو المقصود في كل حالة.
بطلان الأكاذيب
كان في نية «مِنكنا» ومن جاء بعده من المستشرقين وغيرهم من الباحثين العرب الذين نسجوا على منوالهم (أبو موسى الحريري، نبيل فياض؛ نموذجين)، الادعاء بأن القرآن الكريم لم يكن موجوداً زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل تمت كتابته فيما بعد لتبرير الفتوحات الإسلامية، ومن جانب آخر التأكيد بأن القرآن كان مكتوباً باللغة السريانية، وأن العرب المسلمين غيروا فيه وأضافوا الآيات التي تؤكد نزوله أو ظهوره باللغة العربية في مرحلة لاحقة في العصر الأموي؛ غير أن الرياح لم تجرِ بما تشتهيه السفن، فقد أكد الخبراء الغربيون أن النسخة الجديدة ترجع إلى عصر الخليفة عثمان بن عفان تحديداً ومكتوبة بالخط الحجازي وليس السرياني.
لقد زوَّر رجل الدين المسيحي والمستشرق فيما بعد «مِنكنا» الدين والتاريخ المسيحي، واتهم من قبل بطريركه «مار عمانوئيل» ورجال الدين الكلدان العراقيين والفرنسيين والألمان بعدم الأمانة (تزوير المخطوطات) والمصداقية، فما بالك بالدين الإسلامي الذي يعد في نظرهم على أقل تقدير إحدى الهرطقات المسيحية، وأن القرآن الكريم أحد مختصرات العهد الجديد؟!