لديَّ عدة ملاحظات بخصوص أزمة الإعلام المثارة الآن في مصر التي تُبذل جهود حثيثة لاحتوائها وحل إشكالاتها.
هذه الملاحظات هي:
– أن الإعلام المصري أصبح سيئ السمعة، ليس في الداخل فقط وإنما في العالم العربي والخارجي أيضاً، ففقد تأثيره واحترامه، وفي حدود خبرتي المتواضعة، فإنه ما من محفل شاركت فيه خارج مصر إلا وكانت حجتي أمام ما أسمعه من انتقادات لاذعة أن الإعلام ليس مصر، ولا يمثل الشعب والمجتمع المصري.
– أن الذين ينتقدون الإعلام يركزون على القنوات التلفزيونية بأكثر مما يتحدثون عن الصحف الورقية، صحيح أن الصحافة المصرية تعاني التدهور والهبوط بما يدعو إلى الأسف، إلا أننا ينبغي أن نعترف بأن الأداء التلفزيوني كارثي بما يدعو إلى الخجل، ولأن التلفزيون هو الأكثر انتشاراً والأقوى تأثيراً، فإن ما هو كارثي ومخجل أصبح ذائعاً ومرصوداً وأكثر مما هو مؤسف.
– بسبب التأثير الهائل للتلفزيون، فإنه أصبح جاذباً لمراكز القوة في كل مجتمع، وإذا كانت خطورته أقل في الدول الديمقراطية بسبب وجود المؤسسات الموازية إلى جانب قوة تلك المجتمعات، إلا أن تلك الخطورة تتضاعف في مصر بسبب الفراغ السياسي والضعف الذي تعاني منه مؤسسات المجتمع باختلاف أنواعها، وهو ما يسوغ لنا أن نقول: إن القنوات التلفزيونية أصبحت في بلد كمصر تؤدي دور الأحزاب، وإن بعض مقدمي البرامج تحولوا إلى زعماء لتلك الأحزاب، إذ صار لهم دورهم الذي لا ينكر في توجيه الرأي العام، وهو ما أكدته الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي وجدنا أن بين الفائزين فيها بنسب عالية من الأصوات إعلاميين من ذوي السمعة السيئة الذين يهبط رصيدهم تحت الصفر بكثير باعتبارهم من رموز الإعلام الفضائحي.
– قوة الإعلام وخطورة تأثيره في مجتمع يعاني الفراغ السياسي مثل مصر جعلت مراكز القوى تتنافس على الاستحواذ عليه، صحيح أن هيمنة السلطة قائمة في مصر منذ عقود بدرجة أو أخرى، إلا أنها لم تعد تحتكر الفضاء الإعلامي، إذ برزت إلى جانبها قوة رأس المال، التي صارت موازية لقوة السلطة وليست منافسة لها، إن شئت فقل إنها أصبحت شريكة لها وفي أحيان كثيرة مكملة لها، وحين دخل رجال الأعمال إلى الساحة من خلفيات شتى لا علاقة لها بالمهنة، فإنهم استجلبوا معهم حساباتهم ومعاييرهم الخاصة، التي أحدثت هزة عنيفة في تقاليد الأداء الإعلامي، بوجه أخص فإن الضوابط والمعايير الشخصية والثقافية التي كانت معتمدة في مقدمي البرامج التلفزيونية تمت الإطاحة بها.
– حين هيمنت قوة السلطة إلى جانب قوة رأس المال على الإعلام، فإن منابره أصبحت أبواقاً للطرفين، وفي الفراغ برزت الدولة العميقة كمحرك أساسي للأداء الإعلامي وعنصر مهيمن على عملية تشكيل الرأي العام، وإذ استصحب ذلك تراجعاً للحرفية في المهنة وتغييراً في قيمتها، فإنه ترتب عليه أيضاً أن المشهد الإعلامي أصبح يدار في حقيقة الأمر من خارج المهنة وليس من داخلها.
– تأثير القوتين العظميين (السلطة، ورأس المال) لم يكن مقصوراً فقط على التراجع في مستوى الخطاب ومقاصده وقيمه، لأنه أسهم أيضاً في تشكيل نخبة جديدة من خلال انتقاء أناس بمواصفات معينة تتوافق مع المقاصد المرجوة، وتتفنن في تلميعهم وفرضهم على الرأي العام، فهذا خبير إستراتيجي، وذاك فقيه قانوني، والثالث ناشط سياسي، والرابع قيادي.. إلخ.
ورغم أن بعض هؤلاء قد يكونون من المجهولين الذين لم يسمع بهم أحد في مجالاتهم، فإن جهود التلميع والإلحاح على تقديمهم في مختلف المناسبات بتلك الصفات الموحية بالحيثية، تحولهم بمضي الوقت إلى شخصيات عامة وجزء من نخبة المجتمع التي تقود وتفتي في المسارات والمصائر.
– حين فتح ملف الإعلام مجدداً في الآونة الأخيرة بعدما صدم الجميع بما وصل إليه البث الفضائحي، فإن أطرافاً عدة وثيقة الصلة بالمهنة نشطت في محاولة إنقاذها مما وصلت إليه، وعقدت لذلك اجتماعات شاركت فيها نقابة الصحفيين والمجلس الأعلى للصحافة وجهات أخرى ذات صلة، وطرحت خلال الاجتماعات أفكاراً شملت مدونة السلوك الإعلامي وميثاق الشرف والتشريعات التي تنظم المهنة، وهي أفكار لا تخلو من وجاهة، لكن يعيبها شيء واحد هو أنها تسعى لإصلاح المهنة من الداخل، في حين أن مشكلاتها الأساسية نابعة من الخارج، بمعنى أن صلتها بالبيئة السياسية أقوى من انتسابها إلى الوسط الإعلامي، حتى أزعم أن الأول أصل والثاني فرع أو صدى.
– لا أختلف على أن الإعلام والإعلاميين في أزمة، لكنني أتساءل: هل هي مقصورة على ذلك القطاع دون غيره، أم أنها أشمل وأوسع نطاقاً؟ ذلك أننا إذا تلفتنا حولنا فسنجد أن النخبة المصرية ذاتها تواجه أزمة، ليس في تعريفها فقط، ولكن أيضاً في مواقفها من قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل أيضاً في موقفها من قضايا الأمة وفي المقدمة منها قضيتا فلسطين والوحدة العربية، وهو تساؤل يستدعي السؤال التالي: هل نحن بصدد أزمة مهنة فقط، أم أننا نعيش أزمة مرحلة تعددت شواهدها وتجلياتها؟
المصدر: “الشرق” القطرية