د. محمد أبو الغار، طبيب شهير في مجال تخصصه؛ وهو زرع الأجنة، أو مساعدة الأزواج على استقبال أطفال لا يتمكنون من استقبالهم في الظروف المعتادة، وشهرته انتقلت من النطاق المصري إلى المجال العربي، وقد سمعت من صديقي د. مصطفى الرفاعي، أشهر أطباء المسالك وأقدمهم في مصر، ثناء عليه وعلى مهارته.
ولكن د. أبا الغار في المجال العام والعمل السياسي لم يحرز توفيقاً كبيراً، فقد انحاز إلى ما كان يسمى بـ”جبهة الإنقاذ” للمساعدة على الانقلاب العسكري الدموي الفاشي الذي أطاح بالحرية والشورى وكرامة المصريين وآمالهم في بناء مستقبل حقيقي يختارونه ويشاركون في صنعه.
كتب د. أبو الغار مؤخراً مقالاً بعنوان “رسالة إلى الأمن المصري”، نشرته جريدة “المصري اليوم” في ٣/ ٢/ ٢٠١٦م، تحدث فيه عن ضرورة وجود الأمن الذي تحتاجه مصر من أجل الاستثمار والصناعة والتجارة والسياحة، وحماية المواطن وبيته وممتلكاته، وأشار إلى أن الأمن السياسي جزء بسيط من الأمن الجنائي والأمن الاقتصادي، ولكنه أصبح كل شيء، وانتقل إلى حقيقة يبدو أنها كانت خافية عليه منذ انحاز إلى الانقلاب الدموي، وأدركها مؤخراً؛ وهي أن الأمن في مصر يعدّ الشعب عدوه الأول؛ وعليه أن ينتقم منه، ويكبت حريته ويقبض على المصريين بتهم وهمية ويودعهم الحبس الاحتياطي مدداً طويلة بقانون ظالم، دون توجيه تهمة محددة أو محاكمة أو حتى تحقيق.
وتناول ما يسمى الاختفاء القسري، وإصابة المواطنين وقتلهم في الأقسام بصورة روتينية، والاعتداء على أطباء المطرية وسحلهم لرفضهم كتابة شهادة مزورة، ثم يتساءل: هل وصلت بنا الحال أن نُقارَن بالدولة النازية؟ ويخاطب الشرطة المصرية: لستم أقوى من شرطة الاتحاد السوفييتي أو مبارك، أنتم تحتاجون إلى تدريب وتوعية واستخدام قليل من الذكاء حتى لا ينفجر الوطن.
ثم أشار إلى أمثلة عديدة تسبب فيها التصرف الأحمق للشرطة بمضاعفات جعلت صورة الوطن غير مريحة، فضلاً عن انتهاك استقلال الجامعة المصرية، وتوجه أخيراً بتحذير إلى قيادات الداخلية من ممارسات بعض المنتسبين إلى الأمن لأنها ليست في صالح أحد، وستذهب بنا جميعاً في داهية!
بيد أن أبا الغار يقع في تناقض كبير حين يصدق أن من حول الجنرال يكذبون عليه، ويقدمون له معلومات مغلوطة عمداً؛ مما يؤدي إلى إضعاف السلطة وضياع هيبتها.
الناس في مصر يعلمون جيداً أن قيادات الداخلية وعناصرها ينفذون أوامر عليا، وهذه الأوامر تعفيهم من المساءلة، ولا تحاسبهم على الجرائم التي يرتكبونها ولو كانت قتلاً أو تصفية خارج القانون، فالنظام العسكري الذي أسسه البكباشي جمال عبدالناصر عاد بالانقلاب لينتقم بوحشية بعد ثورة نبيلة في منهجها وسلوكها وتعاملها، جعلت الناس يحلمون بنظام يقوم على الحرية والشورى والاختيار، ويحفظ كرامة الإنسان المصري، ويعترف بآدميته وبشريته، وحقه في حياة طيبة تقوم على العدل والمساواة، بعيداً عن العنصرية والتمييز والاستعباد والاستبداد.
من المؤكد أن هناك من يكرهون الإسلام والإسلاميين، ومن أجل هذه الكراهية كان التحالف البائس مع العسكر والكنيسة المتطرفة للتخلص منهم ومن الديمقراطية جميعاً، وبالطبع كان انعدام وجود قاعدة شعبية عريضة للمتحالفين مثل التي يملكها الإسلاميون مسوغاً آثماً للانقضاض على الحرية والكرامة والعدالة.
لقد استعجل المتحالفون الوصول إلى السلطة، وظنوا أن الاستعانة بالعسكر ستقرب المسافة بينهم وبين كرسيها البعيد، ولكنهم للأسف كانوا مجرد أداة أضفت بعض الرتوش الشعبية على الانقلاب ضد الثورة، كما كانوا أداة لعودة الحكم العسكري بوحشيته التي يشكو من بعضها د. أبو الغار في مقاله الذي لخصته تلخيصاً وافياً.
إن الأنظمة العسكرية لا تتسامح مع الحكم المدني، ولا تقبل به ولو كان نتيجة ثورة شعبية نبيلة شعارها العيش والحرية والكرامة الإنسانية، وتتوسل إلى ذلك بكل السبل، ولو كانت مستهجنة، فمَنْ نَشَر الدبابات والمدرعات في الشوارع والميادين بحجة الحفاظ على المؤسسات والمباني، لم يتورّع عن استخدام الرصاص الحي وقذائف الطائرات في قتل الآلاف في يوم واحد، وإلقاء ما يزيد على 60 ألفاً من فضلاء الناس وراء الأسوار بتهم ملفقة، ومداهمة بيوت الأبرياء، وملاحقة الشرفاء ومطاردتهم، وتصفية الآمنين في بيوتهم وفي الشوارع تحت ذرائع غير مقنعة، مع ممارسة التمييز العنصري بسب العقيدة الدينية والحرمان من الحقوق الإنسانية.
لعل د. أبا الغار يتذكر الأمين “حاتم” في فيلم “هي فوضى” الذي أخرجه الشيوعيان يوسف شاهين، وخالد يوسف (حليف الانقلاب وصانع الفوتوشوب)، والأمين “حاتم” قام بدوره الراحل خالد صالح؛ وهو رجل شرطة من الجنس الثالث (لا هو ضابط ولا صف ضابط)، وقد وجد المجال واسعاً في الحي الشعبي الذي يعيش فيه لينتقم من الناس ويفرض عليهم الإتاوات والرشى، ويسعى للاستحواذ على فتاة تعمل مدرّسة، ويسعى للتنفيس عن عقده الكثيرة بطرق شاذة وعنيفة، وفي الوقت نفسه يواجه خطيب الفتاة المدرسة وهو وكيل النيابة الذي يمثّل رجل القانون ويتحداه، ليعلن أن السلطة الأمنية لا يقف في طريقها أحد! لقد استطاع “حاتم” أمين الشرطة الفاسد أن يفرض القهر والقمع والخوف على أهل الحي، وأن يحوّل قسم الشرطة إلى سجن يضع فيه من لا يمتثل لأمره أو لا يعجبه، ويردد مقولته التي صار الناس يحفظونها لكثرة ترديدها: “من لا خير له في حاتم، لا خير له في مصر!”، وهكذا تماهت شخصية مصر في شخصية “حاتم”، كما تماهت من قبل في شخصيات الحكام العسكريين!
مع أنّ المخرجيْن زيّفا واقع القوى السياسية، وجعلا راية الثورة والرفض معقودة بيد اليسار الفاسد، فإن شخصية أمين الشرطة “حاتم”، كانت هي الصورة الأعمق التي انتسبت إلى الواقع الحقيقي القائم والمستمر بكل قبحه ودمامته وجبروته.
إني أتمنى من أبي الغار أن يتخذ موقفاً يحفظ له تفوقه العلمي والطبي، فإما أن يعلن ندمه على مشاركته في جريمة الانقلاب ويعتزل الحياة العامة، أو يرفض الانقلاب العسكري الدموي الفاشي، وينضم إلى المطالبين بالحرية والكرامة والعدل والمساواة في ظل الحكم المدني الرشيد، بالطبع لا أستطيع أن أتنبأ بما سيفعله أبو الغار، وإن كان مقاله مثل مقالات آخرين تتحدث عن خلل واضح في نظام الانقلاب، وتنبئ أن الوضع غير مريح وغير طيب، وأن السفينة تمضي في بحر الظلمات!
ذ كتبت هذه الكلمات تزايدت جرائم الأمين “حاتم” وتنوعت، وعقد الأطباء جمعيتهم العمومة للدفاع عن كرامتهم، وكتب أبو الغار بعض المقالات المؤيدة للجمعية، وتصدّت له اللجان الإلكترونية الأمنية بالتسفيه والإهانة والسخرية.. وما زال الأمين “حاتم” يُخرج لسانه للناس جميعاً!
الله مولانا، اللهم فرّج كرْب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!