أذكر مرّة أنني جلست مع قيادي دعوي كبير، وتناولت معه بعضاً من مشكلات العمل الإعلامي الإسلامي، وذكرت له أن هناك كوادرَ كثيرة من المتميزين إعلامياً تحتاج إلى إبراز فقط، فرّد عليّ: نخاف عليهم من الرياء, وقد جرّبنا سابقاً كيف تفعل فلاشات الكاميرا، وقد يضرّنا لاحقاً إن استخدم شعبيته ضد المؤسسة!
هذا مثال من أمثلة كثيرة على مدى التخلّف الإعلامي الذي أصاب العمل الإسلامي وشعبية الإسلاميين وتأثيرهم في مقتل، وجعل الساقطين والتافهين يسبقونهم إلى الناس بمراحل، نتيجةً للمفاهيم المغلوطة عن الرياء والزهد، ومن مشكلة أكبر وهي الخلط بين العمل التربوي والعمل الإعلامي (كما سيأتي في مقالٍ لاحق بالتفصيل).
إن العمل الإعلامي هو فن مخاطبة الجماهير والتأثير فيهم بالقلم والصوت والصورة، ولا شك أن عملاً كهذا يتطلب التعرّض لفلاشات الكاميرا، وإطراءات الجمهور باستمرار، وإلا لم يكن ثَمَّ إعلام ولا رسائل نوصلها، والبيوت والمساجد أسلم!
إن الشهرة مطلب لكل إعلامي يبحث عن إيصال رسائله أيّاً كانت حقاًّ أو باطلاً، ودعاة الإسلام هم أولى الناس بالسيطرة والتأثير على كل وسائل الإعلام مرئية ومقروءة ومسموعة، ولن يكونوا كذلك إلا بالنجومية فيها جميعاً، والتقدّم، بل والأستاذية والاشتهار الطافح أيضاً!
وخذ مثلاً نظرة لمن حولك، كيف ترى أن علماءً أجّلاء، تحوي صدروهم الفنون من الكتب، ومع ذلك لا تجد لهم التأثير الكافي، بل ربما لم تتسع دائرة تأثير الواحد منهم لتشمل أكثر من حلقة مسجده ومعارفه أو جامعته!
وخذ نظرة أخرى في “اليوتيوب” تُريك الفارق بوضوح، حين ترى فكراً مستنيراً وعلماً لا يحصد سوى قلة من المشاهدات، فيما التافهين والسامجين والضالين المضلين يحصدون مئات الآلاف والملايين، ثم يأتيك صاحبنا المطوّع يقول: أخاف من فلاش الكاميرا، سيفسد عليّ نيّتي!
إنّ كلامَه وإن كان فيه نسبةٌ من صحة ومصلحة مرجوحة، لكنه لا يوازي شيئاً أمام المفسدة الكبرى التي سيُحدِثُها لو توارى عن الأنظار، وتواريتُ أنا، وتوارت هي، واختفينا كلنا من المشهد، تاركين الأجيال لكلّ تافهٍ وتافهة، تلوّث العقول، وترمي القذائف المتتالية على أمتنا، ونحن في الظلام نلعن الواقع في حِلَقِ الذكر، فتخرج أصداء اللعنات وتصطدم بالجدران ولا تعود إلا علينا: أَنِ اقتحم يا بليد الهمة، بدلاً من اللعن من القرن السابق!
ثم إن المؤسسة ليست مسؤولة عن التفتيش في النيّات، وضرب احتمالات الإضرار وغير ذلك، بقدر ما هي مسؤولة عن مدى التأثير المُطَالبة به والتي أخذت على عاتقها إحداث التغيير في الواقع التربوي والاجتماعي والسياسي، وذلك بتقديم القدوات ورجال الفكر والقلم الهادف للجمهور، مهما كانت نية الواحد فيها دَخَلٌ، بل هَب أن واحداً منهم لم يكن مخلصاً، وكان فيه شيءٌ من حبّ الظهور كغالب بني آدم، فعُجبه على نفسه وقوته الإعلامية للمسلمين، وبمثل هذا أفتى الإمام أحمد بن حنبل حين سُئِل عن قويٍّ فاجر، وتقيٍّ ضعيف، أيهما يُوَلّى في الغزو؟
فقال: القوي الفاجر! لأن فجوره على نفسه وقوته لصالح المسلمين، أما التقي الضعيف، فتقواه لنفسه وضعفه مُضِرٌّ بالمسلمين.
وهذا كهذا، فمن كان فيه شيءٌ من حظوظ الدنيا، ولكن غلبت منفعته، فهذا يُقَدّم، فـ”خيرُ العمل ما وافق هوى”، كما قال بعض السلف، ونيّته فليصلحها في بيته في جوف الليل، ولتعينوه عليها، ولكن لا تطمروه، ثم يقطعكم الإعلام إرَباً إرَباً وينفرد بالأجيال يصنعها كيف يشاء!