عقب نكبة فلسطين عام 1948م حدثت مجموعة انقلابات عسكرية في دمشق والقاهرة وبغداد وصنعاء، ولوحظ أن هذه الانقلابات التي قيل: إنها جرت نتيجة لهزائم الجيوش العربية في فلسطين السليبة، أسهمت بطريقة ما في تثبيت الاحتلال النازي اليهودي للأرض المباركة، وتوسيع مساحة الأرض المغتصبة منها، وهيمنة الغزاة اليهود على البحر الأحمر والبحر الأبيض والمنطقة بأسرها، وجاء اليوم الذي تتودد فيه الحكومات العسكرية الانقلابية إلى العدو لتحظى برضاه ومنحه الشرعية لدرجة تغيير المناهج الدراسية، ووضع القدس عاصمة لـ”إسرائيل” بدلاً من فلسطين كما حدث في الجزائر مؤخراً!
ترافق مع الانقلابات العسكرية ازدهار ملموس للشيوعية والشيوعيين العرب الذين أعلنوا استنكارهم لدفاع الجيوش العربية عن الشعب الفلسطيني في حرب عام 1948م، وصار لهم حضور واضح ومؤثر في الحياة السياسية بعد النكبة، وهو ما اضطر فؤاد سراج الدين وكان وزيراً للداخلية قبل انقلاب عام 1952م إلى طرد عرّاب الشيوعيين العرب الخائن اليهودي هنري كورييل من مصر، وهو مؤسس الحزب الشيوعي المصري حدتو، وكان مقرباً من قائد انقلاب يوليو 1952م وعدد من رفاقه.
لقد كان الشيوعيون المصريون والعرب مؤيدين لوجود الكيان الصهيوني الغاصب، وروّجوا لاستحالة هزيمته، وحوّلوا قضية فلسطين إلى قضية إنسانية تقتصر على محاربة ما يسمى اليمين اليهودي في الكيان الصهيوني، ومكافحة التطبيع الذين كانوا أول من اقترفه، وكانوا أكبر داعم للاستبداد، مع أن كلمة الديمقراطية كانت تتردد مثل الأرز في كتاباتهم وأدبياتهم! وفي الوقت نفسه كانوا يشوّهون الإسلام ويحقّرونه.
هل بدأت الانقلابات بالشيوعي أديب الشيشكلي في سورية (1949م) عفواً أم إن “الموساد” أو مخابرات الدول الصليبية الاستعمارية كانت من ورائها لتثبيت الوجود النازي اليهودي في فلسطين؟
هناك قرائن عديدة تؤكد وجود الأصابع اليهودية الصليبية من وراء الانقلابات العسكرية والهزائم المتوالية لجيوش العربان، بل إن الانقلابات ضد ثورة “الربيع العربي” مؤخراً جعلت قادة المخابرات اليهودية النازية يجاهرون بصراحة فاقعة أنهم أنفقوا المليارات مع غيرهم من الأعراب لاقتلاع هذه الثورات والإطاحة بحكوماتها، ومنعها من العمل والديمقراطية والمحافظة على كرامة الشعوب العربية.
كل انقلاب يبدأ بدعاوى عريضة تدعي الانحياز للشعب قضايا الأمة وحريتها، ولكن هذه الدعاوى تتحول بعد اغتيال إرادة الشعب إلى سفك دماء الأبرياء واعتقال عشرات الألوف من الأبرياء، ومصادرة الأموال، وتكميم الأفواه، وحرمان المواطنين من الكرامة والحرية والأمل.
هل تذكرون انقلاب عام 1952م والمبادئ الستة؟ (القضاء على الاحتلال، والإقطاع، والرأسمالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية وبناء الجيش القوي ووضع نظام ديمقراطي سليم)، ما الذي تحقق منها وما الذي لم يتحقق؟ ولماذا ظل المبدأ السادس “بناء الديمقراطية” في علم الغيب دائماً؟ لأن العسكر – ويقلدهم الآخرون – لا يؤمنون بالديمقراطية ولا اختيار الشعب ولا التخصص!
الشيء ذاته حدث في انقلاب يوليو 2013م بصورة أكثر بشاعة وشناعة، وإحصاء القتلى والمصابين والمعتقلين والمطاردين والمختفين قسراً يثبت ذلك ويؤكده!
في العادة يتصدر المشهد أحد الانقلابيين ويفضل لو كان ضابطاً؛ مثلما حدث في ليبيا واليمن وسورية والعراق وقبل ذلك بعقدين من الزمان في الجزائر، ثم ينكشف العنصر الفعال في الانقلاب من الدول والكيانات الأجنبية والأعراب للحيلولة دون الحرية والديمقراطية، ولعل حالة خليفة حفتر خير مثال على ذلك.
حفتر (1943م) كان ضابطاً بالجيش الليبي على عهد العقيد الهالك معمر القذافي، وشارك في الحرب ضد تشاد، فتم أسره هناك مع أكثر من ثلاثمائة من جنوده، وظل هناك أسيراً مهاناً ذليلاً حتى تم تسفيره إلى الولايات المتحدة ليسكن بالقرب من مبنى المخابرات الأمريكية في “لانجلي” لمدة 20 عاماً، ويعود بعد ثورة 17 فبراير 2011م ليعلن نفسه من الثائرين على القذافي، ثم يتمرد على حكومة الثورة، ويشكل مليشيات من بعض القبائل الجنوبية وعناصر أفريقية ودعم من مصر والإمارات وفرنسا وإنجلترا وأمريكا، ليمنع الإسلاميين من المشاركة في حكم ليبيا، وقد كشفت الأحداث مؤخراً عن الدور الإجرامي لفرنسا والولايات المتحدة مع الأعراب في إشعال نار الفتنة داخل ليبيا وحرمانها من الحرية والإفادة بثرواتها.
لقد رقى حفتر نفسه كعادة الانقلابيين إلى درجة المشير (الفيلد ماريشال) وكأنه انتصر في الحرب العالمية الثانية، مع أنه فاقد الأهلية العسكرية ليكون مجرد صف ضابط بدرجة أومباشي (عريف)!
بعد أن منح نفسه رتبة “الماريشالية” أعلن – بمساعدة طيران عربي – سيطرته على قوس النفط، تمهيداً لاقتطاع دويلة بشرق ليبيا يحكمها وتخدم كفلاءه بطريقة ما، ولكن الدول الصليبية أعلنت في بيان مشترك أن عليه أن يسحب قواته من قوس النفط وإلا.. وهي لعبة استعمارية ماكرة، حيث بدأ الكرّ والفرّ بينه وبين هذه الدول، فبعد انسحابه من القوس عاد واحتله ثانية بمساعدة الطيران إياه، وحكومات الغرب الاستعماري تلعب لعبة القط والفار مع الحكومة التي وافقت عليها في الصخيرات وتسميها حكومة الوفاق، ولكنها في النهاية تخطط للوصول إلى هدفها النهائي، وهو نهب البترول والثروات الأخرى المتوقعة في الوطن الليبي التعيس.
ويبدو أن دول الغرب الصليبي الاستعماري تريد أن تضحك على الإسلاميين الذين ساندوا حكومة الوفاق، وحاربوا ما يسمى بـ”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، وطهروا مدينة سرت مقر تمركز التنظيم، فأصدروا بيانهم المذكور ليهدئ من روع الإسلاميين الذين شعروا كما يقول الصحفي ديفيد هيرست بالطعن في ظهورهم، وأنهم تعرضوا للخيانة والغدر.
بأمثال حفتر يجري الاستعصاء الديمقراطي وبالأبواق الشيوعية الموالية لليهود الغزاة وأشباهها؛ يزدهر الاستبداد والطغيان ويتم تجميل الصورة القبيحة للانقلابيين، هنا تبدو القابلية للاستبداد أو الاستعمار أمراً طبيعياً لدى الشعوب العربية المنهوكة بالقهر الصليبي اليهودي الشيوعي.
هل يعني ذلك فقدان الأمل في بناء الديمقراطية؟ كلا.. فالأغلبية حين تدرك طبيعة ما يراد بها، وتتخذ الوسائل المناسبة لمنعه لن يكون الأومباشي حفتر ولا الصاغ عامر ولا الهزائم المنكرة أمام اليهود الغزاة!
الله مولانا، اللهم فرج كرب المظلومين، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!