نجولُ في هذه المقالة لسبر غور التعليم، فنُظهِره عملًا بطوليًّا، يمتاز بسمات وافرة، وبخصائصَ عديدةٍ كاثرة، تتكفَّل هذه المقالة بتوضيحها وإظهارها.
عقد البروفيسور Doug Lemov – مؤلِّف كتاب “التعليم عمل بطولي” – ورشةَ عملٍ، يوضح فيها مفهوم التعليم بأنه عمل بطولي، وكان بدأها بالإشارة إلى أن التعليم وظيفةٌ بطولية، وأخذ يتساءل: لماذا لا تكون عظيمًا في عملِك، ما دام أن هذا العمل من اختيارك؟!
ولغايةِ التوضيحِ أعطى البروفيسور Lemov أمثلةً على بعض المشاهير الرياضيين، الذين لم يتوقَّفوا عن التدريب مجرَّد أنهم أصبحوا من المشهورين، أو لأنهم فازوا في لعبة أو مباراة، وعلى سبيلِ المثال لا الحصر، هل كان بإمكان اللاعبMicheal Phleps أن يحصل على جميع الميداليات والجوائز دون تدريب؟ وهل اعتبار اللاعب العالَمي Lionel Messi مِن أفضل لاعبي كرة القدم في العالم كان ليكون لولا التدريب المستمر؟!
إذًا التدريب والممارسة والعمل الجادُّ هي مفاتيحُ تَميُّزٍ ونجاحٍ وتفوقٍ لجميع الإنجازات العظيمة التي حدثَتْ في العالم، وهذا ينطبقُ على مهنة التعليم؛ لأنها فنٌّ بها حاجة إلى صقلٍ وتدريبٍ وتطويرٍ.
إذا نُظِر إلى العملية على أنها فنٌّ يُمارَسُ بجديةٍ ورغبةٍ وإبداع، فبعد ذلك يكون لدينا مُعلِّمون عظماء، وبذلك نستطيع أن نُخرِّج طلبة ناجحين، ونُنشِئ مدارسَ تربوية مميزة، ومجتمعاتٍ ناجحة.
كما أنه عندما لا ينظر إلى التعليم على أنه فنٌّ، ولا يُؤدِّي المعلمون فيه عملهم تأديةً فاعلةً ذات مهارةٍ عاليةٍ، ومنهجية منضبطة في الصف الدراسي، فلا يمكن أن يكونوا ناجحين في عملهم، وهذا له أثرٌ مباشر في المجتمع بشكل عامٍّ، لا بل على جميع الأسر بشكل خاص.
أودُّ القول في هذا السياق: إن ممارسة مهنة التعليم فنٌّ لا ينتهي، بل هي عملية إبداعية متجددةٌ باستمرار، ويمكن للمعلِّم أن يكتشف مهارة جديدة، ويحاول ابتكار تقنية مختلفة، ويحضر ورشَ عمل كثيرة، ويرتِّب بيئة صفِّية بأشكال جديدة، ويمارس عمله بمهارة، كأنه فن مبتدع ومتجدد.
ولذلك يقول Doug Lemov: إنَّ مهنة التعليم مِن أهم المهن، وأصعبِها في العالم؛ ولذلك ينبغي أن نكون عظماء في هذه المهنة.
إن المعلم الذي يُوصَف بأنه ذو همة أو إنجاز عالٍ، هو المعلِّم الذي يستطيع إظهار القدرات المميزة لدى طلَّابه، ويتغلَّب على التحديات التي تُقابِله، ويعود إلى بيته وهو في قمة الرضا والسعادة؛ لِمَا أنجزه وقام به.
حتى يُقال: إن المعلم فعَّالٌ ومبدعٌ؛ ينبغي له أن يكون لديه رؤية استشرافية واضحة ومحددة، يعرف ما الذي يريد أن يصل إليه في صفِّه كلَّ يوم، لعله بات معروفًا أن الشيء الذي يجعل المعلمَ ذا إنجازٍ عالٍ ودافع أكثر للعمل هو التغيير؛ أي: عليه أن يُدرِك أن ما كان يفعله سابقًا يجب ألا يستمرَّ في المستقبل، كما عليه أن يُدرِك أنه باستطاعته تعلُّم حلولٍ جديدةٍ لمواجهة التحديات الطارئة.
المعلمون يغيرون الحياة Teachers change lives:
لعله بات واضحًا لَدى المشتغِلين في سلك التعليم أنهم يُدرِكون الوظيفةَ الرئيسة للمعلِّم، وهي إحداث التأثير في التفكير، وزرع سلوكيات جديدة؛ ولذلك فإنه من غير المبالغ به القولُ: إنَّ المدرِّسين العظماء يستطيعون تغيير حياة الطلاب!
ثَمَّة قصص كثيرة لا حصر لها تدلُّ على ميزاتِ ثنائيةِ العَلاقةِ بين المعلِّم والطالب، إن بعض النماذج الأكثر فعاليةً لتطوير الطلبة تدل على أن المدرسين هم ليسوا مسؤولين عن الإثراء الأكاديمي وحسب، بل أكثر مِن ذلك، فإذا كنت تريد أن تكون معلمًا عظيمًا، يجب عليك أن تتَّصِل بطَلَبتِك اتِّصالًا مباشرًا؛ لكي تُؤثِّر فيهم تأثيرًا إيجابيًّا؛ لأن أفضل المدرِّسين مَن يأخذ على عاتقه مصلحةَ الطلبة، سواء داخل الصف الدراسي أو خارجه، ويعتني بأمورهم العلمية اعتناءً دقيقًا، من خلال بناء عَلاقات قوية مع الطلبة، يتيح ذلك فرصةً قوية لتأثير المعلِّمين في طلبتهم تأثيرًا عمليًّا في كل جوانب حياتهم، يُعلِّمونهم أمورَ الحياة الكثيرة، وأنماط الحياة المختلفة، التي سوف تُساعِدهم في حياتهم اليومية بعد أن يُنهوا امتحاناتِ الفصل الدراسي، ويتخرَّجوا في جامعاتهم المستقبلية.
إنه ليس من السهل دائمًا تغيير حياة الطلاب؛ ولهذا السبب تحتاجُ هذه العملية إلى معلمين عظماء، بعضُ الطلبة يحتاجون إلى تشجيع وتحفيز إضافي؛ كالطلبة الذين تقلُّ معدَّلاتهم عن المستوى المطلوب، وآخرون ممن يُواجِهون مشاكل شخصية في حياتهم بهم حاجةٌ إلى أحدٍ يتكلمون معه من أجل النصحِ والإرشاد، إذا كان الطلاب يتطلَّعون إلى التفوق، فلا بد من وجود معلم يكون بجانبهم خير مُعين ومُوجِّه.
هناك ثلاثة مجالات ممكن أن يستخدمَها المعلم طوال حياته المهنية، من أجل تغيير حياة طلابه:
المجال الأول: التعليم Education:
المعلمون العظماء يجعلون التعليم متعةً ومحفزًا، والدروسُ الممتعة الجذابة مهمة جدًّا لنجاح الطلبة الأكاديميِّ، بعض الطلبة الذين يمارسون سلوكيات سيئة، أو يَميلون إليها؛ مثل الكسل وعدم المشاركة قد يعتمدون في تقدُّمهم على معلمٍ جادٍّ، منخرطٍ في العملية التعليمية.
المعلمون العظماء يجعلون الصفَّ الدراسي ذا بيئةٍ تعليمية مثيرة وممتعة، تعمل على استثارة الطلبة، وجذب انتباهِهم، وبذلك يتعلَّم الطلاب بطريقةٍ أفضل عندما يكون لديهم حافز، وتحفيزُ الطلاب عادةً ليس أمرًا سهلًا، ولكنه يُفِيد الطلبة فائدةً لا حدَّ لها على المدى البعيد.
إن التدريسَ القائم على المهارات العالية يُؤدِّي بدايةً إلى إيجاد نوعٍ من الأُلفة، والثقة بين الطلاب والمعلم في الفصل، وتظهرُ مهارة المعلم وقدرته على ضبط سلوكيات الطلاب في الصف، مِن خلال مهارة جذبِ انتباه الطلاب، واستحواذِه على اهتمامِهم، وفي هذه الحالة سيُصبِح لدى الطلاب الرغبةُ في التعلُّم، ويُصبِح المعلم قادرًا على التعليم، وذلك مِن خلال خَلْق عَلاقةٍ مِن الألفة والثقة بين العناصر المتفاعلة في داخل غرفة الصف.
والقاعدة التربوية تنصُّ على أنه عندما تكون هناك عَلاقةٌ قوية بين المدرس والطالب، فإنه سينجزُ أكاديميًّا ما هو متوقَّع منه، وسيُحاوِل تطوير عَلاقته بمدرِّسيه، من خلال أداء واجباته، والحصول على نتائجَ أكاديميةٍ ممتازة؛ ولذلك فإن اعتقاد المعلم بقدرته على التغيير، ينبع من إيمانه بقدراته الشخصية، وبأنه يستطيع أن يعمل تغييرًا كثيرًا في حياة طلابه.
المجال الثاني: التحفيز Inspiration:
إن تحفيز الطلبة شيءٌ أساسيٌّ في متابعةِ نجاحهم وإمدادهم بقدرةٍ كافية على تلبيةِ إمكاناتهم؛ لأن الطلبةَ المحفَّزين يُمكِنهم إنجاز أشياء مدهشة، ويُلازِمهم هذا الحافزُ طَوالَ حياتهم، ويمكن للتحفيز أن يكون له أشكالٌ متعددة؛ منها: مساعدة الطلاب في خلال السنة الدراسية، وفي بناء الأهداف قصيرةِ المدى، وإرشادهم باتجاه وظائفِهم المستقبلية.
إن الكثير من أصحاب المِهَن الراقية سوف يذكرون المعلِّمين الذين عزَّزوا حبهم للمهنة التي يعمَلون بها، حتى بعد سنوات من التخرج، فإنهم يعزون إنجازاتهم إلى ذلك المعلم المحفِّز.
إن المعلم الفاعل والمحفِّز له أثرٌ كبير في تغيير سلوك الطلاب على المستوى الشخصي، كما أنه يجعل المدرسةَ مكانًا ممتعًا ومثيرًا للاهتمام لدى الطلبة، إننا نُدرِك أن للمعلمين الفاعلين تأثيرًا في حياة الطلاب، بل على امتداد حياتهم المستقبلية وتطلعاتهم التعليمية.
إن سنواتٍ مِن البحث حول جودةِ المعلم تدعم الحقيقة القائلة بأن المعلمين الفاعلين لا يجعلون الطلاب يشعرون بالرضا عن المدرسة والتعلم فحسب، بل إن أداءَهم الجيد ينتج عنه زيادةٌ في تحصيل الطلاب، كما أثبتَتِ الدراساتُ التربوية أن مجموعةً من الصفات الشخصية والمهنية لدى المعلِّم الفاعل ترتبطُ جميعُها مع أعلى مستويات تحصيل الطلاب، ويجعل الطلبة يَقْتَدون بالمعلم المحفِّز الفاعل في كل حركاته وسكناته واتجاهاته القرائية، ثم الالتزام بكل ما يقولُه ذلك المعلم، والعمل على تنفيذِه، وكلما كانَتِ العَلاقة الإيجابيةُ أكبرَ بين الطالب والمعلم، كانت فُرَص الطالب في التقدم وإحراز النتائج أفضلَ.
المجال الثالث: الإرشاد Guidanc:
والجدير بيانه أنه يمكن أن يكون المدرِّسون مصدرًا موثوقًا به لنصح الطلبة وإرشادهم، وذلك مِن أجل التفكير في قراءاتٍ حياتية مهمة، ويمكنهم أن يساعدوا طلبتَهم على متابعة تعليمهم العالي، واكتشاف فُرَص العمل، والمنافسة في بعض المسابقات، التي لولا هذا الإرشاد لم يُفكِّر هؤلاء الطلبة في الخوض في مثل هذه التجارِبِ.
أحيانًا ينظُر الطلبة إلى معلمهم بوصفه مرشدًا ذا خبرة ومعرفة؛ ولأنه معلم سوف يكون مُعرَّضًا للمشورة، وإعطاء النصيحة في بعض الأمور مِن خلال عمله، هل تعلم أن الكثير مِن الطلبة يتركون الدراسة لسبب ما أو أكثر، وفي العادة إن الانقطاع عن الدراسةِ قرارٌ يتَّخِذه الطلبة دون الرجوع إلى معلِّميهم، ولكن المعلِّم الماهر يستطيع أن يلحظ هذه الرغبة لدى الطلبة، ويتدخَّل قبل فوات الأوان، كذلك يُمكِنهم تحديد المشكلة ووضع الحلول البديلة، وفي مثل هذه السياقات المعلِّمون دون شكٍّ يمتلكون المقدرةَ على تغيير حياة الطلبة.
وجملة القول: مهنة التعليم مهنةٌ شريفة ومحترمة تاريخيًّا، ولا مناص مِن أن تكون الآن كذلك؛ لأن أفعالها عظيمةٌ وكثيرة، فهي تُحدِث تأثيرًا بِنْيَويًّا حيويًّا في حياة الآخر، ولديها قدرةٌ هائلة على صنع الآخر، ومنها يبدأُ العمران والحضارة؛ ولذلك حاوَلْنا في هذه المقالة إثباتَ السِّمة الغالبة على هذه المهنة، التي تصفها بأنها عملٌ بطولي، قادرٌ على إحداث التغيرات الهادفة والمتجهة نحو بناءِ الإنسان معرفيًّا وسلوكيًّا.
المصدر: “الألوكة”.