ما دام دور العلم والعلماء والمتخصصين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ضعيفاً؛ فستبقى أهداف الإصلاح والتقدم بعيدة، وسنعاني من مشكلات كثيرة؛ كالبطالة والضعف الصناعي والزراعي والتأخر الإداري والتعليمي وغير ذلك، ولا يوجد سر في تقدم الدول الغربية، فكل ما فعلوه هو أن ركزوا على العلم والعلماء والبحث العلمي، وأعطوهم أموالاً كثيرة واستقلالية ونفوذاً كبيراً في صنع القرارات والخطط، فقد أجادوا الصناعة العلمية للقرارات والخطط في حكوماتهم ومؤسساتهم وجامعاتهم وشركاتهم وغير ذلك.
نخطئ إذا اعتقدنا أن أكبر أعدائنا هم الأعداء الخارجيون والفاسدون من بني جلدتنا، بل أكبر أعدائنا هو جهلنا؛ أي جهل المخلصين، وأقصد هنا بالجهل هو عدم إدراكنا للنقص الشديد في رصيدنا العلمي على مستوى الدولة والمؤسسات، وفشلنا في تنظيم وتطوير القطاع العلمي ودعمه بالإمكانات والصلاحيات والعدد والنوعية، إذن نحن بحاجة إلى بناء قطاع علمي قوي، ولنطلق عليه “السلطة العلمية”؛ حتى نعطي للعلم وأهله استقلالية ونفوذاً وإمكانات.
ولم ينتبه الكثيرون إلى أن أغلبية جامعاتنا ومعاهدنا العلمية ضعيفة، وأن كفاءتها العلمية أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب للتنمية، ويكفي أن تقرأ حجم ميزانيات البحث العلمي وعدد ونوعية الأبحاث حتى تقتنع أن الوضع مأساوي، فهي عاجزة عن التأثير في التنمية، ناهيك عن قيادتها، ومثل هذا يقال عن كفاءة وصلاحيات وإمكانات أهل العلم والمتخصصين في الحكومات والوزارات والمؤسسات والقطاع الأهلي وغير ذلك.
وقد حاولت بعض الحكومات معالجة الضعف العلمي بإنشاء مجالس عليا للاقتصاد، أو التخطيط، أو التعليم، ولكن كانت النتائج محدودة؛ لأن الرصيد العلمي الوطني ضعيف، إذن نحن كحكومات وشعوب ليس عندنا العلم المطلوب لتحقيق التنمية حتى لو كانت نسبة الإخلاص عندنا 100%، ومن المحزن أن نترجم هذا الضعف العلمي حتى في قرارات كبيرة مصيرية، فتجد من يقول: إذا أردنا التطور فلنركز على الاختراعات، وأقول: لن نستطيع عمل اختراعات مهمة، وحتى لو عملناها فالتطور لن يتحقق؛ لأن عندنا تخلفاً إدارياً وسياسياً وفكرياً وتعليمياً.. إلخ، كما أن إقامة قطاع صناعي قوي جداً لا يتطلب بالضرورة عمل اختراعات، فيمكننا عمل عقود مع شركات عالمية تزودنا بالمصانع الحديثة وتطورها.
وهناك من يقول: إذا أردنا التقدم فلنقلد سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو الولايات المتحدة، وأقول: هذا رأي خاطئ أيضاً، فلا يمكن أن يقلد القطاع الزراعي المصري – مثلاً – القطاع الزراعي الأمريكي، فالظروف مختلفة، وقد ندفع ثمناً باهظاً جداً لأي محاولات تقليد سطحية، ومن الآراء الخاطئة أنه إذا أردنا أن نتطور فلنبدأ بالتعليم، وأقول: كيف نطور التعليم وليس عندنا رصيد علمي تعليمي قوي؟ وكلما جاء وزير تعليم قدم آراء مخالفة لمن أتى قبله أو يأتي بعده من وزراء، فهذا تخبط، كما أن التنمية قضية شاملة تتطلب تطويراً تعليمياً وصناعياً وإدارياً واقتصادياً وغير ذلك، وهذا لن يتحقق إلا بوجود سلطة علمية.
والغريب أن أغلب العرب عندما تسألهم عن عدد السلطات في الدولة يقولون: ثلاث سلطات؛ تنفيذية وتشريعية وقضائية، ولكن لا تجد واحداً يقول: نحن بحاجة إلى سلطة علمية، فلم يلاحظ أحد أن العلم والعلماء والمتخصصين هم فعلاً في الصفوف الخلفية، فلا سلطة ولا تأثير لهم إلا بصورة محدودة، فمثلاً أيهما أشهر في الحكومات؛ السياسيون أم العلماء؟ ومن يؤثر في قراراتها؛ المسؤولون أم أهل العلم؟ وإذا كانت السلطة القضائية تهدف إلى تحقيق العدل؛ ولهذا أعطيت صلاحيات كبيرة، ويؤدي غيابها إلى إضعاف إن لم أقل تدمير العدل، فإن غياب السلطة العلمية أدى إلى إضعاف وجود العلم وتأثيره في مختلف قطاعات التنمية.
وتتكون السلطة العلمية من عشرة معاهد كبيرة ومتخصصة في قطاعات التعليم والإدارة والاقتصاد والزراعة وغير ذلك، وفي كل معهد على الأقل 100 من نخبة النخبة من العلماء والمتخصصين والخبراء، وأقصد أفضلهم أمانة وعلماً، ونصفهم ذوو خبرات نظرية، ونصفهم الآخر ذوو خبرات عملية؛ فمثلاً معهد الدراسات التعليمية نصفه مدرسون وموجّهون ونظَّار.. إلخ، فمن الخطأ الظن أن هؤلاء ليسوا أهل علم، خاصة ونحن نلاحظ – للأسف – سيطرة كبيرة لأصحاب شهادات الدكتوراه على المعاهد والجامعات والاستشارات، وأغلبيتهم الساحقة ذوو خبرات نظرية، وأدعو كل المخلصين إلى قراءة كتابين لي في هذا الموضوع وهما: “أين السلطة العلمية؟”، “الطريق إلى التقدم العلمي”، وهما موجودان على الإنترنت.
نحن بحاجة ماسة جداً إلى نشر مقترح السلطة العلمية، وهذا المقترح وراءه أكثر من ثلاثين عاماً من العمل في مجال إدارة العلم والتقنية، وإذا وجد هذا المقترح – بإذن الله – معرفة وقبولاً من المخلصين فتأكدوا أننا سنبدأ عهداً جديداً من القفزات التنموية؛ لأننا جعلنا العلم والعلماء في المقدمة.