بالأمس القريب كان المسلمون جزءا فاعلا في المجتمع السريلانكي، ينخرطون في الأعمال التجارية والسياسة والتعليم والأنشطة الإنسانية جنبا إلى جنب مع مواطنيهم المنتمين إلى السنهالية، أكبر المجموعات العرقية في البلد الآسيوي.
لقرون عديدة، ظل المسلمون، الذين يمثلون حوالي عشرة في المائة من مجموع السكان البالغ تعدادهم نحو 22 مليونًا، وفق إحصاءات رسمية لعام 2012، يشكلون جزءاً كبيراً ومهماً من نسيج المجتمع السريلانكي.
لكن صورة التناغم تلك بدأت تهتز في الآونة الأخيرة، عندما اندلع عنف طائفي ضد المسلمين، أوائل الشهر الجاري، في محافظة كاندي (وسط)، إثر مزاعم بأن مسلمين قتلوا شابًا من العرقية السنهالية، ذات الغالبية البوذية، وهو ما أسقط ضحايا وعرض مساجد وممتلكات مسلمين لأضرار بالغة.
بعد يوم من اندلاعها، أعلن الرئيس مايثريبالا سيريسينا، حالة الطوارئ لمدة عشرة أيام، في محاولة لمنع امتداد العنف من كاندي إلى مناطق أخرى في البلد الواقع بالمحيط الهندي جنوبي آسيا.
ثم رفعت الحكومة حالة الطوارئ، في 18 مارس/آذار الجاري، ووعد الرئيس سيريسينا بإجراء تحقيق في أسباب اندلاع العنف.
قبل عقدين تقريبا، كان هذا العنف ضد المسلمين في سريلانكا أمر لا يمكن تصوره.
والتساؤلات التي تطرح نفسها هي: لماذا حدث هذا التحول؟، وإلى ماذا يشير هذا العنف؟، ومن يستفيد من ذلك؟، وما هي الدروس المستفادة من هذا الصراع؟
دعونا نفحص هذه الأسئلة في السطور التالية، على ضوء التطورات الأخيرة:
أصول الصراع
لا شك أن المسلمين السريلانكيين هم الطرف الذي يتكبد المعاناة الأكبر في هذا الصراع.
لكن ألا يؤثر هذا الصراع على المجتمع السنهالي أيضًا؟
من المؤكد أن فقدان الثقة في رفيق أسهم إسهاما كبيرا في اقتصاد البلاد لقرون، سيؤثر على الأمة كلها.
لكن مرة أخرى، السؤال المثار هو: من الذي سيستفيد من هذا العنف؟
يجب أن يقودنا هذا السؤال إلى النظر في كيفية حدوث هذا التفاقم الأخير لأعمال العنف.
وفق تقارير، فإن مجموعة متطرفة، تسمى “بودو بالا سينا” (القوة البوذية)، وكيانات أخرى مشابهة هي المسؤولة عن هذا التطور.
ووفقا لبحث نشرته المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات (ICG)، مؤخرا، فإن “هذه الهجمات منظمة ومخطط لها جيداً. وهناك سبب وجيه للاعتقاد بأنها مدبرة جزئياً لإثارة رد فعل من جانب المسلمين، لإيجاد ذريعة لتبرير المزيد من العنف ضد المسلمين بعدها”.
هذه الملاحظة منطقية، لأنها تفسر لماذا أصبح المجتمع المسلم السريلانكي فجأة هدفا للاستفزاز.
خاضت سريلانكا حربًا طويلة ضد انفصاليي التاميل، وخلال هذه الحرب، شهدت نوعًا من الوحدة بين السكان السنهاليين.
ويبدو أنه بعد هزيمة الانفصاليين التاميل، شعر قادة قوميون سنهاليون بالحاجة إلى “عدو جديد”، لمواصلة حفز المشاعر القومية السنهالية من أجل الوحدة الوطنية.
من بين هؤلاء، يحتل الرئيس السابق، زعيم المعارضة، ماهيندا راجاباكسا، موقع الصدارة.
لكن هل من الحكمة من جانبه استهداف المجتمع الإسلامي لهذا الغرض؟ هل يجدي ذلك؟
أطروحة “صراع الحضارات”
يبدو أن راجاباكسا كان مدفوعا بالنظرية السياسية القائلة بأن المرء يحتاج إلى “عدو مشترك” من أجل تحفيز الوحدة الجماعية لمجتمع سياسي معين.
ويبدو أن التطبيق الناجح الذي قدمه صامويل هاننغتون، الأستاذ السابق بجامعة هارفارد، لهذه النظرية في تعريف العلاقات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة (1945-1991)، أقنع راجاباكسا بالبحث عن “عدو جديد” في سياقه السريلانكي.
لكن هل كان حكيما في اختياره للمجتمع المسلم لهذا الغرض؟، وهل أدى تطبيق أطروحة “صراع الحضارات” إلى خفض العنف في جميع أنحاء العالم؟، هل كان دور المسلمين في تاريخ سريلانكا هو نفسه دور مجتمع التاميل؟
لا، لم يبد مسلمو سريلانكا أي نزعة انفصالية، بل على العكس، لقد تعاونوا عامة مع الأحزاب السياسية المستندة إلى السنهاليين من أجل الاستقلال والتنمية الوطنية.
وحتى الآن لديهم تمثيل في معظم الأحزاب السياسية الوطنية.
فلماذا إذن استهدف المتطرفون السنهاليون المسلمين كما لو كانوا خصومهم؟
يقودنا هذا السؤال إلى البحث عن أسباب محددة للنزاع.
مزاعم ضد المسلمين
اتُهم المسلمون بأنهم غير وطنيين ومتورطين في تجارة المخدرات، ويتناسلون بشكل أسرع بكثير من أقرانهم السنهاليين، مع توقعات بأن يفوقوا عدد السنهاليين، بحلول عام 2050.
كما اتُهم المسلمون ببيع عقاقير تعقيم، لمنع النساء السنهاليات من الإنجاب، والسعي إلى أسلمة سريلانكا، عبر استيراد وبيع وتصدير السلع “الحلال” في البلاد، ومن ثم جلب الشريعة إلى سريلانكا، وإلى غير ذلك من الاتهامات.
توجد أيضا تقارير عن رهبان بوذيين متطرفين يشكون من أن مسلمين يسيطرون على شركات أو يشترون أراضٍ ذات قيمة تجارية عالية.
مع ذلك، لم يتم تقديم أي دليل لدعم هذه الاتهامات، وبطبيعة الحال، فإن بعض الاتهامات لا معنى لها.
ما حدث مع المسلمين في سريلانكا هو بالضبط ما حدث في حالة أطروحة “صدام الحضارات”، حيث تم تحديد المسلمين كخصوم للمصالح الأمريكية.
لكن الرأي الراجح على ما يبدو هو ما أشارت إليه المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات بأن هدف المتطرفين السنهاليين هو إستثارة المسلمين كي يصدر عنهم رد فعل يوفر ذريعة لمزيد من العنف ضدهم.
ومن المؤكد أن أطروحة “صدام الحضارات”، التي اقترحت مباشرة بعد الحرب الباردة، زادت من العنف في جميع أنحاء العالم.
ووفق باحثين، من المعتقد أن جهاز المخابرات الهندي، المعروف باسم جناح الأبحاث والتحليل (RAW)، قدم التدريب والأسلحة إلى جبهة “نمور تحرير تاميل إيلام” حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي”، ويعتقد معظم المراقبين أن هذه الجبهة لم تمت بعد.
ومن الممكن دائماً لأجهزة المخابرات المختلفة أن تستخدم هؤلاء “الإرهابيين” لتجنيد أفراد من خلفيات مختلفة، للقيام بأنشطة تخريبية في أجزاء مختلفة من العالم.
وأفادت التقارير بأن جبهة “نمور تحرير تاميل إيلام”، التي نفذت هجمات انتحارية على المسرح العالمي منذ أواخر الثمانينات، كانت على اتصال وثيق بمجموعات إرهابية أخرى.
ولذلك، ثمة احتمال كبير بألا يزداد النزاع السريلانكي فحسب، بل ينتشر أيضا إلى أجزاء أخرى من العالم.
السبيل لوقف العنف
مع ذلك، توجد إشارات إيجابية.
فقد أفادت المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات بأن المجتمع المسلم في سريلانكا “مارس ضبط النفس بشكل مثير للإعجاب” حتى الآن، كما تدخل رهبان بوذيون سريلانكيون في العاصمة كولومبو، لوقف أعمال الشغب المعادية للمسلمين.
هذه التطورات بلا شك هي موضع تقدير، لكن الدور الذي تؤديه الأمم المتحدة في هذا الصراع يجب أن يحظى بالثناء الأكبر.
تدخل الامم المتحدة
خلال أيام بعد إعلان حالة الطوارئ، أرسلت الأمم المتحدة مساعد أمينها العام للشؤون السياسية، جيفري فيلتمان، إلى سريلانكا، وقد أدان “انهيار القانون والنظام والهجمات ضد المسلمين وممتلكاتهم”.
ويبدو أن تراجع العنف ورفع حالة الطوارئ هو نتيجة مباشرة لتدخل الأمم المتحدة في هذه القضية.
وبحسب تقارير، فتحت الحكومة تحقيقات في أعمال العنف، لكن تصميمها على إيجاد حل سيعتمد على كيفية معالجة وتناول التحقيق للوضع.
وإذا فشلت الحكومة في نشر التقرير، الخاص بنتائج التحقيق، على الملأ، فسيعني هذا أنها ليست جاة في حل النزاع